الثورة تحطم الأساطير، رغم ضباب وغيوم تصنع الذعر والخوف واليأس الذي أصاب جمهور عاد من الميدان إلى المقاعد المريحة أمام شاشات التلفزيون ليكتشف أن «الثورة ترجع إلى الخلف»، وأن «لا شيء تغيّر». جمهور في انتظار البرابرة، يستحضر شبح الديكتاتور، ويبحث عن خيمة يهرب فيها من الجحيم القادم، إلى هذه الدرجة لا يشعر «حزب الكنبة»، ومدمنو الثورة الفوارة، بحجم تحطيم التابوهات القديمة. الجيش، بكل المحبة لـ«النواة الصلبة»، والتقديس للكاكي، وبعد قبلات الميدان والتصوير بجوار أجساد الدبابات، انخدشت أسطورته في مواجهات يومية، وتهشم جسمه إلى حد سيعيد المؤسسة العسكرية إلى حجمها الطبيعي. الجيش ينسحب من المواجهات، لكي لا يكون الهدف أمام شعب جرب تحطيم الديكتاتور، والشعب يخاف من «انقلاب» يقود إلى جمهورية عسكرية جديدة بقناع ديموقراطي، وخصوصاً أن المزاج السياسي بعد تبخر اللحظة الصوفية العابرة، عاد إلى الانتظار والمطالبات، وهذا الباب السهل لديكتاتورية «المستجيب» لمطالب الشعب.
المسافات بعد الثورة تمنح للضباب السياسي، ثقلاً يصيب الثوار بفقدان الأمل، ويغري الكيانات الهاربة من مذبحة مبارك باقتناص الفرصة و«ركوب» السلطة. الركوب تعبير استخدمته الشرطة منتصف نهار جمعة الغضب، وبكل مشاعر الهزيمة ردد الضباط في ما بينهم الاعتراف القاسي: «الشعب ركب».
الركوب فرصة الجاهز والحاضر والمنظم، هذا ما يستوعبه الإخوان المسلمون بعد اكتشافهم أنه قد آن أوانهم.
خرجت «الجماعة» من النفق إذن، لم تعد في حاجة إلى سرية منحتها سحراً بطول عمرها، لم تشغل بالها بالتفاصيل الصغيرة، ورتبت كل استعراضات القوة بعد سنوات «التقية» الطويلة، أقامت احتفالات كبيرة بافتتاح مقر ضخم على هضبة المقطم، إعلان وجود يحجز مساحة للمضطهدين.
لا تعيش الجماعة من دون سيرة الاضطهاد وسحره، ولخصت الثورة في مكاسب أرادتها بقوة الضحية.
وبينما كانت الجماعة تعيد صناعة خرافة كيان الضحية الكبير، وتعدّه سلاحها الفتاك، رد السلاح إليها، وأصبحت الجماعة هدف القوة الجديدة، ومصدر رعب جمهور البيوت. هكذا أُضيفت الجماعة بسهولة إلى قائمة التابوهات المحطمة، تعرت بنيتها الريفية عندما اصطدمت بشريحة مدينية تريد التعدد وترفض السمع والطاعة.
قناع «التقية» سقط مع عنفوان واستعلاء، لم يعبر عن قوة وثقة، لكنه كشف عن هشاشة وارتباك، لم تنقذ الجماعة منه رحلات الالتصاق بالسلطة، بداية من الاتصال سراً بعمر سليمان والاتفاق على «الشرعية مقابل الخروج من الميدان». وعندما بحث الجيش عن «قوى منظمة»، سارعت الجماعة، والتصقت بالسلطة، لتبدو كأنها جناح شعبي للمؤسسة العسكرية، وقفزت بالدهاء السياسي إلى مواقع في لجنة إعداد الدستور، لتحدث خدعة تربك مصر كلها الآن وتضعها في دائرة الاستقطاب بين ثنائية: الدستور أولاً أم الانتخابات أولاً؟
ألعاب تصلح مع الجمهوريات المستبدة وصفقات تحت الطاولة، وهذا ما أثار فزع قوى جديدة اكتشفت نفسها في ميدان التحرير. نسي القلب العجوز للجماعة لحظة الميدان، وتعامل بعنجهية ديناصور في طريقه إلى الانقراض، ولا يسمع صرخات النهاية، وتصور أن الطريق إلى الحكم مفروش بالخرافات القديمة.
ولأن السياسة طوال ٦٠ سنة هي صراع مع الخرافات الكبرى والأقدار، دفعت الهواجس الحركة السياسية كلها إلى إعلان الحرب على الجماعة، متخيلة أنها الخطر القادم. الحرب الآن من الجميع على التنظيم الذي انشأه عام 1928 مدرّس تقليدي على ضفاف القناة اسمه حسن البنا. لم يحلم المرشد الأول بحكم مصر، لكنه وضع بذرة حلم رومانسي بدولة تعيد مجد دولة الخلفاء الراشدين، دولة تحكم بالقرآن، وتسير على سنّة النبي محمد.
رومانسيّة داعبت المشاعر المهزومة من الاحتلال، وأدخلت معها العشرات والمئات في أخطر لعبة تدفع مصر فاتورتها حتى الآن، لعبة خلط الدين بالسياسة.
لم يكن الإخوان رجال مؤسسة دينية يحكمون باسم قداسة السماء ويحملون صكوك الغفران، لكنهم استمدوا جاذبيتهم من كونهم على الهامش، في المعارضة بعيداً عن السلطة. وهي جاذبية كادت تنتهي حين أرادوا اقتسام السلطة مع الضباط الأحرار، لتكون هذه هي الشرارة الأولى لحرب بين السلطة والإخوان مستمرة حتى الآن.
هذه الحرب هي سر جاذبية الإخوان حتى الآن، وبعد ظهور لاعبين أكثر تطرفاً في الغرام بلعبة الدين والسياسة. المدهش أن الإخوان هم الوجه الآخر للسلطة، رغم أنهم يعيشون أزمة منتصف العمر في التنظيمات، فهم يحبون صورتهم الجديدة كتنظيم معتدل ينعم بتوازن مع السلطة ومع كل التيارات الأخرى. وفي الوقت نفسه لا يستغنون عن أوهام التنظيم الكبير، القوي، الجبار، المكتسح للجميع. وهي خرافة لكن الجميع يصدقها. فالصورة المتخيلة عن الإخوان أضخم بكثير من الصورة الواقعية. وهم يعيشون على الخرافة.
وليس أمام الإخوان الآن سوى المزيد من التطرف للتمايز بين الحركات الإسلامية (الصوفيون والجهاديون والسلفيون) أو التحالف مع قوى مدنية تحررهم من فكرة وكلاء الدولة الدينية في مصر.