ماذا بعد خطاب باراك أوباما؟ الرئيس الأميركي الذي يتقن لعبة الكلام المموّه والمواقف الأقرب إلى الكلام الدبلوماسي منها إلى المباشر، ترك السيناريوات مفتوحة، خصوصاً في ما يتعلق بسوريا. رؤى أميركية متناقضة ـــــ بعضها نابع من آمال وتمنيّات ـــــ طُرحت قبيل الخطاب الرئاسي الأميركي وبقيت «حيّة» بعده، إذ لم تفلح عبارة «على الرئيس بشار الأسد أن يقود الإصلاح أو الرحيل» في ترجيح نظرية ونسف أخرى.ففيما نعى البعض أي «أمل» بمطالبة أميركية صريحة بتنحّي الرئيس السوري، لا يزال البعض الآخر يحسم نيّة إدارة باراك أوباما تنحية الأسد في وقت قريب. والجديد، صوت فرنسي مقرّب من الرئيس نيكولا ساركوزي جزم بأنه «بعد القذّافي سيحين دور الأسد».
هي فترة الترقّب بانتظار الخطوة السورية التالية وردّ الفعل الأميركي عليها. هي فترة حسّاسة دبلوماسياً وسياسياً واستراتيجياً. هي معركة حاسمة بين الـ«إذا» والـ«أو»! هكذا حاول البعض وصف الصراع الدائر الآن بين «إذا الشرطية» التي شهرها الأسد في وجه الإدارة الأميركية «إذا ضغطتم علينا فسنفتح جبهة الجولان والحدود مع إسرائيل»، وبين «أو التخيير» التي أعلنها باراك أوباما للأسد «الإصلاح أو الرحيل». أيّ من الجبهتين ستنتصر؟ هذا ما لم يتكهّن به أحد لغاية الآن.
لكن في الجانب الأميركي الآخر، ثمّة من رأى في تصعيد اللهجة والضغوط الأميركية على الرئيس السوري أن أوباما يتبع النهج ذاته الذي اعتمده مع الرئيسين المصري والليبي. فهو طالبهما بتنفيذ الإصلاحات أولاً، ثم ضغط من أجل تنحيتهما «استجابة لمطالب الشعب» (لحسني مبارك) أو «بسبب فقدان الشرعية» (لمعمّر القذافي). هؤلاء، يتّكلون على «عناد الأسد» وعلى «ضغوط إيرانية» عليه ستدفعه الى التشبّث بمواقفه واستمرار صدّ الاحتجاجات بالعنف... فـ«الانتحار». هم لا يزالون يعوّلون على المجتمع الدولي الذي «لن يتمكّن»، في نظرهم، «من الوقوف صامتاً أمام الجرائم المرتكبة بحق المواطنين السوريين»، ما سيؤدي إلى تحرّك دولي ـــــ برعاية أميركية ـــــ باتجاه إسقاط شرعية حكم الأسد عبر اتهامه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
السيناريوات الأميركية «التي تريد إسقاط نظام الأسد» لا تقدّم معلومات عن النظام البديل الذي سيتسلّم الحكم، كما لا تلمّح إلى أي خطّة أميركية ـــــ إسرائيلية لما بعد الأسد، لكنها تظهر ثقة بإدارة «ستعرف كيف تلقّن إيران درساً وتلوي ذراعها عبر ضرب أحد أهمّ حلفائها». ولا يخفي من يتبنّى هذا السيناريو استعداد معظم الدول العربية المشاركة فيه بسبب «حاجتهم إلى إضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة».
أيضاً، تبقى هنا الخاتمة غير واضحة الملامح، وتنبع عند البعض من رغبة جامحة قديمة أو قد استفاقت في عهد جورج دبليو بوش، في القضاء على «الخطر الإيراني» النووي والسياسي واستعادة طهران حليفاً استراتيجياً.
جزء من اللوم الأميركي يتوجّه الآن إلى الجسم الدبلوماسي الذي يرى البعض أنه «أخفق في تقديم صورة واقعية عن الأسد ونظامه» منذ تسلّم بشار الأسد السلطة. يقول اللائمون إن معظم المبعوثين الخارجيين «صدّقوا ما أظهره الرئيس السوري من انفتاح ومرونة ووعود بالإصلاح» وبعضهم ارتبط بطريقة أو بأخرى بمصالح مع عائلة الأسد، وعمل وراء الكواليس على إلغاء أو تأجيل العقوبات على سوريا. السفير السابق لدى سوريا (1989 ــــ 1991) إدوارد جيرجيان كرر في مقابلة لإذاعة «إن بي أر» أن من «الأفضل والأنجع لواشنطن أن تتعاون مع بعض الحلفاء المفصليين مثل تركيا أردوغان وفرنسا، في أي خطوة تقرر اتخاذها تجاه سوريا».
جيرجيان ذكّر بمدى حساسية موقع سوريا في المنطقة وارتباطها جغرافياً وسياسياً بالبلدان المحيطة، وخصوصاً إسرائيل، كما نبّه إلى خطورة أن تتفاقم الأوضاع في حال تنحّي الأسد، فتشهد سوريا حرباً أهلية على الطريقة اللبنانية أو العراقية. السفير السابق أشار إلى اختلاف في الأزمنة والوقائع بين عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد وابنه، وخصوصاً في ما يتعلق بالنفوذ الإيراني. هذا النفوذ، يقول جيرجيان، لم يكن في عهد الأسد الأب بالقوة نفسها التي يتحلّى بها اليوم، ما مكّن الرئيس الراحل من إدارة العلاقات السورية ـــــ الإيرانية بطريقة أسهل، على عكس ما يحصل حالياً مع ابنه بشار.

«بعد القذافي الأسد»

فرنسياً، قبل يوم من إلقاء الرئيس الأميركي خطابه عن الشرق الأوسط، علا صوت أحد مستشاري الرئيس الفرنسي في الفترة الأخيرة، الكاتب برنار هنري ليفي الذي أعلن صراحة أن مصير الأسد سيكون كحال القذافي. ليفي الذي انتدبه في آذار الماضي نيكولا ساركوزي لاستطلاع الأوضاع في ليبيا، والذي عاد بقرار حاسم بوجوب التدخل عسكرياً والقضاء على القذافي، أعلن موقفه من الوضع في سوريا في مقابلة مع مجلّة «لو نوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية، الأربعاء الماضي. الملياردير الفرنسي الذي «حلّ أخيراً محلّ وزير الخارجية»، كما ينتقد البعض، قال صراحة إنه يجب «أن نتمنّى بكل جوارحنا وأن نسعى بكل طاقاتنا لجعل ما حصل في ليبيا أمراً ممكناً في سوريا أيضاً». وأضاف «لتحلّ على دمشق المعجزة نفسها التي حصلت في طرابلس، لأن هناك طاغية آخر فقد بدوره الحق في حكم بلاده». ليفي الذي لامه البعض في فرنسا على صمته حيال ما يجري في سوريا، دعا منتقديه من صحافيين وسياسيين للذهاب إلى درعا وجمع المعلومات والصور كما فعل هو في بنغازي. «عرّاب التدخل في ليبيا»، كما يسمّيه الصحافيون، يبدي إعجاباً كبيراً بالتجربة «غير المسبوقة التي نفذها المجتمع الدولي في ليبيا تطبيقاً لمبدأ حماية الشعوب». لكن، هل تستطيع فرنسا وبريطانيا أن تخوضا جبهة أخرى في سوريا؟ يجيب ليفي، «كلا، لكن فرنسا وبريطانيا ليستا الدولتين الوحيدتين. والتجربة الليبية قد أثبتت أن باستطاعتنا التدخل في سوريا، إذا أردنا ذلك». سقوط القذافي، بنظر الكاتب والمستشار السياسي/ الحربي، سيمثّل «موجة من الصدمات، وسينتقل كالعدوى إلى الباقين، وحينها سيفهم الأسد أن أمره انتهى». ليفي يختم المقابلة قائلاً «لا يمكننا أن نقول من جهة إن إيران تمثّل خطراً على العالم، وألّا نتمنى سقوط الذراع المسلّحة لأحمدي نجاد في المنطقة: نعم، بعد القذافي سيحين دور الأسد».