I «دولة إسلامية»، بدت هذه صيحة آتية من زمن منقرض، لكن صوتها يثير الذعر في قطاع مدني تصور أن «ثورة الميدان» ستبني مصر حديثة. القطاع المدني مؤلف من طبقة وسطى جديدة، حالمة بدولة على النموذج الغربي، لا ترفض الدين، لكن لا يحكمها الفقهاء. هؤلاء أصابهم الذعر من التعامل المباشر مع جماعات عاشت تحت سيطرة أجهزة الدولة البوليسة وإدارتها، والآن هم أحرار، يصرخون بهستيريا أكثر من تقديم مشروع أو بناء مستقبل سياسي.
هكذا بدا السلفيون بهوجات تحطيم الأضرحة وقطع آذان المسيحيين، خارج لحظة صنعتها ثورة المدينة. السلفيون هم هوجة ما بعد الحرية، وفوران مادة سريعة الاشتعال بعد تغيير التركيب الذي تعودت عليه.

الفوران والهوجة ليسا سياسة، كما أن الخرافات القديمة لا يمكن أن تمثل واقعاً في لحظة انتصار الثورة. هكذا خسرت جماعة الإخوان المسلمين موقعها في أول اختبار ديموقراطي، فقدت اكتساحها لانتخابات الجامعة. اتحادات الطلاب اختيرت للمرة الأولى بعيداً عن استقطاب الحزب والجماعة. ضاع سحر الاضطهاد، ولم يعد التصويت احتجاجيّاً على مندوبي النظام ووكلاء الحزب الحاكم.
فقدت الجماعة مواقعها لمصلحة قوى جديدة، يسار وليبرالية. ولم يلحظ سكان قوقعة الذعر هذا التغير، وعاشوا في هلع أن الدولة الاسلامية آتية، وأن السلفيين سيحكمون، والجماعة خطفت الثورة الى مكتب الإرشاد.
هذه إذاً أشباح قديمة تحجز موقعها بقوة في وعي ما بعد الثورة وتصنع هلوسات المريض: «الجيش تحالف مع الإخوان، السلفيون سيحكمون، إنها مؤامرة مشتركة بين الحزب الوطني والجيش والجماعة والسلفيين لحكم مصر».
الهلوسات تستبدل الخيال الذي صنع الثورة، وتضخّم من واقع سياسي يعبر من الاستبداد الى الديموقراطية بصعوبة، وبدون ذاكرة صحية لممارسة السياسة. هناك أخطار بالطبع، تقطع الطريق الى مصر جديدة، لكن بدلاً من النظر الى هذه العوائق، يعيش صناع الثورة كوابيس ما بعد الانتصار.
II
لم تحسم مصر معاركها. 200 سنة عمر مشروعها باتجاه دولة حديثة، والمعارك مؤجلة، المشروع لم يكتمل، المشوار يقف في المنتصف، والدولة لا تكتمل، والحياة تسير بهذه التركيبة العجيبة: دولة حديثة، لكنها ليست حديثة تماماً، مدنية لكنها تعتمد على شرعية دينية مستترة تظهر عند ساعات الخطر على النظام، بداية من العدوان الثلاثي عندما أعلن عبد الناصر المواجهة من منبر الأزهر، وحتى اعتماد مبارك على فتوى شيخ الأزهر في تحريم التظاهرات أثناء الثورة. شرعية الدين، لا الدين، هي المقيمة في تركيبة «الدولة» المصرية.
الدولة ورثت تراثاً مما حولها. حاولت البحث عن شرعية دينية لجنرال يسيطر ويغلب خصومه. الشرعيتان متلازمتان في الدولة التي ورثت إمبراطورية الرجل العثماني المريض. كان حكم العائلات، التي يرضى عنها الاستعمار (أسرة محمد علي كان من نصيبها مصر، أسرة الشريف حسين تنازعت على أكثر من بلد). عائلة محمد علي جمعت بين تقاليد الشرق في الاعتماد على الشرعية الدينية، مع لمسات غربية مستعارة من تقاليد ملوك أوروبا، في تكوين مؤسسات حديثة تفصل الدولة عن مخزنها الديني: الكنيسة.
ولأنه لا كنيسة سياسية في الإسلام، فإن التنظيمات التي تحمل فكرة «الخلاص والحل»، استعارت الكنيسة بعدما وضعت عليها أقنعة إسلامية. السلفيون، وبشكل أقلّ الجماعة الإسلامية، هم بضاعة قديمة تريد المرور من جمارك حديثة، تتحايل وتصدر أصواتاً عالية، فاللحظة ليست لحظة تنظيمات الخلاص و«الإسلام هو الحل». الجمهور الواسع لا يريد أيديولوجيا الخلاص بقدر ما يريد بناء دولة حقيقية تقدم له خدمات التعليم والعلاج وتتيح له العمل ويعيش على أرضها بكرامة.
دولة لا يمكن أن تقام أسوار حديدية حولها لتكون «مزرعة تجارب لإعادة تربية البشر»، كما تفكر تنظيمات الأصولية الإسلامية، ولا دولة تقهر فيها الغالبية الدينية أقلياتها وتتعامل معهم على أنهم ضيوف.
الدولة في مصر، لأنها لم تحسم تكوينها ولم تشكل مؤسساتها، أرادت فقط ترويض شعبها، فإنها لعبت كل الألعاب لتضمن السيطرة.
III
تحولت مصر من دولة الحرية والاشتراكية والوحدة (أيام عبد الناصر) الى دولة «العلم والإيمان» (أيام السادات)، بما استلزم التحول بإسباغ «اللمسة» الدينية على الدولة العصرية وارتداء رئيس الدولة العباءة الريفية فوق بدلة، صُنفت في الصحف العالمية على أنها ضمن الأكثر أناقة بين ملابس رؤساء الدول.
أخرجت هذه التحولات ثقافة محافظة خجولة من نفسها، وعبرت عن حضورها القوي عبر مؤسسات الدولة، محتمية هذه المرة بالغطاء الديني وباحتياج الدولة الى صورتها الجديدة (مركز الدين المعتدل) في مواجهة الإسلام المتطرف الدموي.
ساهم في ذلك جيش موظفي الدولة بطبيعتهم المحافظة (في الأساس)، الى جانب لمحات ترييف المدينة التي ازدهرت أيام السبعينيات مع انحسار خطابات اليسار والإعجاب بالثقافة الغربية.
هذه اللعبة تعود الآن الى جماعة الإخوان، ليبدو الحلم بالدولة المدنية ضاغطاً، وسبباً لأن تسير الجماعة (بحسها الخلاصي) في طريق أنها مع الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية.
غريزة البقاء هي ما تدفع الجماعة الى هذا الطريق الذي لم يعد صالحاً، وسيكون مكشوفاً إذا استمرت الثورة في طريقها للسيطرة على عناصر الثورة المضادة. الجماعة وغيرها ستكون عارية في مواجهة خدعة جرّبها النظام طويلاً ونجح، وبثّ عبرها الروح في جمهوريته التسلطية.