عاشت تونس أمس يوماً تاريخياً، وقبل غياب الشمس كان نجم زين العابدين بن علي يغرب، تاركاً خلفه بلاداً تحترق وانتفاضة شعبية هي الأولى في العالم العربي التي تطيح ديكتاتوراً. هرب الطاغية عن طريق المطار متوجهاً الى الخارج، وتضاربت المعلومات، حتى الساعات الأولى من فجر اليوم، عن وجهة رحيله، قبل أن تستقرّ عند «دولة خليجية»، تبين أنها جدة في السعودية.الأنباء الأولى عن وجهة بن علي كانت إلى مالطا برفقة أربع مروحيات، ومن هناك استقلّ طائرته الخاصة متوجّهاً إلى باريس ثم سردينيا. غير أن مصادر حكومية فرنسيّة أكدت أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي رفض استقباله.
وذكرت صحيفة «لو موند» الفرنسية أمس أن طائرة تقلّ على متنها إحدى بنات الرئيس التونسي وإحدى حفيداته حطّت في مطار بورجيه قرب باريس عند الساعة 7:30 مساءً بتوقيت فرنسا.
وفي المقابل، قال القبطان، محمد بن كيلاني، إنه رفض بعد ظهر أمس الإقلاع بطائرة من مطار قرطاج الدولي تقلّ أقرباء للرئيس التونسي. وأوضح «رفضت الإقلاع بالطائرة التي كانت متجهة الى ليون وعلى متنها أفراد من عائلة بن علي». ولم يوضح كيلاني هويات المعنيين أو عددهم.
وبرحيل بن علي، انتهت مرحلة استمرت 23 سنة، واتسمت بحكم الحديد والدم والفساد. لكن صفحة بن علي لم تطو نهائياً، وفيما كان الشارع التونسي ينتظر أن يعيش فرحة الانتقال الدستوري للسلطة إلى رئيس مجلس النواب، غادر بن علي البلاد تاركاً إياها وسط حالة من البلبلة الدستورية، فهو لم يتخلّ رسمياً عن الرئاسة لكي يتاح لرئيس مجلس النواب ممارسة مهمات الرئيس لمدة ستين يوماً الى حين إجراء انتخابات رئاسية. وكانت المفاجأة في خروج رئيس مجلس الوزراء محمد الغنوشي ليعلن ممارسته مهمات الرئيس بـ«صورة مؤقتة». ورغم أن بن علي لم يعلن تفويض سلطاته رسميّاً إلى رئيس مجلس الوزراء، فإن الغنوشي لجأ الى المادة 56 من الدستور، التي تتيح لرئيس الدولة تكليف رئيس الوزراء ممارسة سلطات رئيس الدولة مؤقتاً، ليضع البلاد أمام إشكال دستوري. واللافت أنه في لحظة الإعلان، وقف إلى جانب الغنوشي رئيسا مجلس النواب والمستشاران فؤاد المبزع وعبد الله القلال. والأخير وزير داخلية سابق ومسؤول عن جرائم قتل (قتلى إسلاميين تحت التعذيب) وتعذيب في تونس ومتابعات في الخارج، والمبزّع، هو جلاد يعرفه أبناء تونس أيضاً.
وكانت ردود الفعل مباشرة وسريعة أمس على إعلان الغنوشي تولّيه مهمات بن علي. وفيما خرجت تظاهرات تطالب برحيل الغنوشي، فنّدت شخصيات قانونية تونسية هذا الإجراء ورأته غير دستوري، ولا يتماشى مع الحالة التي عاشتها تونس خلال الأسابيع الأخيرة. وقال قانونيون تونسيون إن الغنوشي هو الذي كلف نفسه بالمهمة، في إجراء من غير المستبعد أن يكون قد رتّبه مع بن علي الذي أراد أن يحتفظ بالرئاسة. وقالت شخصيات قانونية إن النص الدستوري الصالح في هذه الحالة هو المادة 57 التي تجيز لرئيس مجلس النواب تولّي مهمات الرئيس في حال شغور موقع الرئاسة. وفي الوضع الحالي فإن موقع الرئاسة شغر بسقوط بن علي وهروبه بفعل الانتفاضة الشعبية.
وقد عبّر الكثير من القانونيين التونسيين، ومن بينهم الصادق بلعيد (وزير سابق للعدل وقانوني)، عن رفضهم لهذه الطريقة في تداول السلطة، لأنها تنتهك القانون. ويرون فيها استيلاءً غير شرعي على السلطة.
وكان واضحاً من ردود فعل الشعب التونسي أن الإخراج المسرحي الذي قام به الغنوشي، لن يكون له أي مفعول مادي على الأرض، فهو من جهة رمز من رموز نظام بن علي، ومن جهة اخرى كان تصرّفه محاولة لتدارك السقوط الكبير، كما فعل من قبل شاه إيران رضا بهلوي، من خلال صنيعته شهبور بختيار.
الكثير من المسؤولين والساسة التونسيين لا يريدون أن يحكموا على الأوضاع، ولا على توقعات المستقبل القريب، إذ لا شيء مستقراً الآن. فتونس لا تزال تحت وقع التظاهرات، والعنف مستمر وإطلاق النار مُتواصِلٌ، ومنع التجول مفروض. لكن الرأي العام التونسي أدرك بحسّه العميق، وهو يقولها من خلال التظاهر، أن بيان الغنوشي هو بيان انقلابي، وهو يلحّ على التزام الحذر خوفاً من سرقة ثورته الثانية بعد ثورة الاستقلال، ويطالب بحكومة إنقاذ وطني تسمح لكل الفعاليات بالمشاركة في صنع مصير تونس.
تعيش تونس، الآن، بعد رحيل الديكتاتور ومغادرته البلاد، وتولّي الغنوشي «مؤقتاً» زمام الأمور، حالة فيها مزيجٌ من الفرح لرحيل الديكتاتور، والترقّب والحذر، لأن تاريخ تونس الحديث فيه ما لا يدفع للطمأنينة (خطاب زين العابدين بن علي وهو ينقلب على سيّده بورقيبة كان واعداً لكنه خدع عموم الشعب الذي اكتوى بنير الرئيس مدى الحياة). لكن التظاهرات مستمرة. وإذا كان رئيس الوزراء السابق، رئيس الجمهورية الحالي المؤقت، محمد الغنوشي، قد وعد بالتشاور مع كل الأحزاب والمجتمع المدني لتنفيذ كل الإصلاحات المعلنة، فالشعب لا ينسى أن محمد الغنوشي نفسه صنيعة زين العابدين بن علي، وبالتالي فلا يمكن الثقة به.
لم يكن أحدٌ يتصور أن الجنرال بن علي، الذي حكم تونس بيد من حديد منذ سنة 1987، سيهرب بهذه الطريقة المهينة. لقد نجحت الحركة الشعبية العارمة، بفضل شهدائها الذين يقتربون من المئة، في دفع الديكتاتور إلى الهروب. كذلك هرب عدد من أقرباء الرئيس، في مقدمهم صهره بلحسن طرابلسي، شقيق زوجته، فيما تردّدت أنباء متضاربة عن اعتقال زوج ابنته، صخر الماطري، إذ ذكر تلفزيون «نسمة» التونسي أن الأخير اعتقل، غير أن سكرتيره نفى، مشيراً إلى أنه غادر إلى دبي، ليلتحق بزوجته وحماته ليلى الطرابلسي.
وفيما من المقرر أن يبدأ الغنوشي اليوم مشاورات لتأليف حكومة وحدة وطنية، اجتاحت البلاد موجة من أعمال النهب، دفعت الكثير من السكان إلى الاحتماء في منازلهم، ومناشدة الجيش التدخّل لوقف حال الفوضى.
علامات النهاية
وبانت منذ صباح أول من أمس علائم الانهيار على النظام. وتوقف المراقبون عند خوف بن علي من الجيش وعدم مغادرته قصر قرطاج منذ أكثر من اسبوع، حتى لإلقاء كلمة أمام البرلمان كما كان مقرّراً، ولا سيما بعدما أقال قائد الجيش الجنرال رشيد عمار، الذي رفض إطلاق النار على المتظاهرين، واكتفى بحراسة المرافق الحكومية.
بن علي لم يتوجّه إلى البرلمان، واكتفى بتوجيه كلمة متلفزة من القصر الرئاسي. من رأى بن علي مساءً وهو يخاطب الشعب التونسي، كان يشاهد رئيساً في نهاية عهده. مرتبكاً و«متصالحاً»، ليس كعادته. وكأن لسان حاله يقول: لا تلفظوني. أراد أن يقلد الجنرال ديغول، وهو يقول للفرنسيين، فهمتكم، قبل أن يغادر قصر الإليزيه.
لم يفعل خطاب بن علي مفعوله، ولم يفض إلى تهدئة الشارع، بل التقط المتظاهرون منه رسالة واحدة، هي أن الجنرال فقد زمام الأمور ولم يعد قادراً على ضبط الموقف، ودخل في متاهة مفتوحة من التنازلات التي قادته بسرعة شديدة الى بوابة النهاية، الأمر الذي ترجم نفسه، قبل فراره، بقرار إقالة الحكومة والدعوة إلى انتخابات تشريعية خلال ستة أشهر، وإعلان حال الطوارئ.
وحاول الجنرال بن علي أن يبدو خلال الخطاب، كعادة الجنرالات الذين يُدركون أن نهايتهم قريبة، سلساً وآدمياً وإنسانياً: حزن على حاضر تونس، وطالب الجميع (جميع أبناء تونس) بخدمتها وبنائها، كما أنه حزن على الدماء التي أريقت، كأنه غير مسؤول عنها. وطالب بلجنة تحقيق مستقلّة. واكتشف، أخيراً، أن المصطلح البورقيبي اللئيم «رئيس مدى الحياة» لا يليق بتونس، فقرر أن يتخلّى عنه، طالباً، بما يشبه التوسّل والتسوّل معاً، أن يتركه الشعب رئيساً عليه إلى سنة 2014.
من يقرأ خطاب الرئيس التونسي، من دون أن يعرف أوضاع تونس بحق، يمكن أن يصدّق الرئيس ويتفاءل خيراً. لكن الأمر خلاف ذلك. فهذه الوعود هي نفسها التي أطلقها سنة 1987 حين انقلب على سيّده بورقيبة... الوعود نفسها، لم تتغير ولم تشخ، لكن الرئيس هرم والشعب التونسي قاسى وكابد ثم «شبّ عن الطوق»،ولذا لم تنطل عليه اللعبة.
ولم يكد بن علي ينهي خطابه حتى امتلأت شوارع تونس بالمتظاهرين من جديد، وواصلت ميليشيات النظام استخدام الرصاص الحي فكانت حصيلة الليل قرابة عشرين قتيلاً، وحصلت المفاجأة في العاصمة التي سقط فيها منع التجول وخرج الناس في تظاهرات امتدّت حتى الصباح، وتواصلت طوال يوم أمس في الضواحي القريبة من القصر الجمهوري وأمام وزارة الداخلية، وكان الهتاف الرئيسي هو المطالبة برحيل بن علي، والإفراج عن جميع المعتقلين.
وأفادت مصادر تونسية بأن تظاهرات الليل توجّهت نحو قصر قرطاج من ناحيتي حلق الواد والمرسى، وتصدّى لها الحرس الرئاسي في ضاحية الكرم التي سقط فيها أربعة قتلى، والمرسى التي سقط فيها قتيلان. بقي المتظاهرون في الشوارع ولم ينسحبوا، بل قامت مجموعات أمس بمداهمة منازل عائلة طرابلسي في ضاحية قمرت وعمدت إلى نهبها وإحراقها.
ومنذ أسبوع لا يمرّ يوم من دون إشارة إلى تهاوي النظام، وتحوّلت تراجعاته المرتبكة الى ما يشبه كرة الثلج التي ظلّت تكبر يومياً. تراجعات غير مدروسة، تظهر النظام خائفاً وفاقداً للأعصاب، وغير قادر على إدارة المعركة مع الشارع.
ومن بين الإشارات البارزة إلى تسارع سقوط النظام حصول عملية نقل أموال عامة وخاصة للخارج، فقد أفادت مصادر تونسية في باريس بأن الحكم والأوساط القريبة منه شرعت في إجراء تحويلات مالية كبيرة نحو الخارج. الانتفاضة التونسية دفعت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية الى إجلاء رعاياها وسيّاحها من تونس، ورحّلت ألمانيا وبريطانيا أمس آلافاً من السياح كانوا يقضون إجازات في منطقتي الحمامات وسوسة، بعدما تعرضت عدة مجمعات سياحية للحرق في المدينتين.
النهب والسطو وتدمير الممتلكات العامة والخاصة باتت من القضايا الحساسة التي يثار من حولها نقاش واسع. وتؤكد مصادر تونسية أن هناك عصابات منظّمة درجت في الأيام الأخيرة على تنفيذ عمليات إغارة على مجمعات سياحية ومتاجر. وتقول المصادر إن مجموعات تستقلّ سيارات نقل عام تأتي من مناطق بعيدة، وتنفّذ عمليات حرق ونهب وتغادر بسرعة، وعادة يكون أفرادها مسلحين بأسلحة رشاشة. وتؤكد أوساط المعارضة أن هذه المجموعات مدسوسة من طرف النظام لإثارة الرعب وتشويه الطابع السلمي للانتفاضة.
رد الفعل الدولي هو الذي بقي مثيراً للاستغراب، فالولايات المتحدة وفرنسا، الصديقتان القريبتان من النظام، اكتفتا بإبداء القلق على الاستخدام المفرط للقوة. ولم تتمكنا من مواكبة الشارع التونسي، الذي كانت له الكلمة الأولى والأخيرة، ليسجل مأثرة لم يعرفها العالم العربي من قبل، إلا أن الولايات المتحدة تداركت الموقف جزئياً، وقال البيت الأبيض في بيان له بعد هروب بن علي إن للشعب التونسي الحق في اختيار زعمائه. إشارة لا تخلو من دلالة في ظل الإشكال الدستوري، الذي افتعله الغنوشي.
وأثنى الرئيس الأميركي باراك أوباما على «شجاعة» الشعب التونسي، وحثّ على إجراء انتخابات حرة في المستقبل القريب. وأصدر أوباما بياناً قال فيه إن الولايات المتحدة تقف إلى جانب المجتمع الدولي للشهادة على هذا «النضال الشجاع» من أجل الحصول على «الحقوق العالمية التي يجب أن نحافظ عليها»، وأضاف «سنذكر على الدوام صور الشعب التونسي الذي يسعى إلى إسماع صوته».



محمد الغنوشي


رئيس الوزراء، أو الوزير الأول، محمد الغنوشي، هو سياسي واقتصادي يشغل منصبه منذ السابع عشر من تشرين الثاني 1999. يقول عنه التونسيون إنّه بعيد عن الإعلام ويكاد يختفي وراء الرئيس بن علي.
شغل عدة مناصب في كتابة الدولة للتخطيط والاقتصاد الوطني قبل أن يعيّن سنة 1975 مديراً للإدارة العامة للتخطيط. كلف في تشرين الأول 1987 لفترة وجيزة بوزارة التخطيط في حكومة زين العابدين بن علي في عهد الحبيب بورقيبة.
حين ترك بورقيبة السلطة عام 1987، تولّى بن علي الرئاسة وعيّن الغنوشي في الحكومة، اذ شغل في البداية منصب وزير المال ثم وزيراً للتعاون الدولي والاستثمار. وعين وزيراً أول خلفاً لحامد القروي بعد الانتخابات الرئاسية سنة 1999.
يعدّ الغنوشي من التكنوقراط، وهو مكلف أساساً بالملف الاقتصادي. رغم تولّّيه الوزارة الأولى، ظل ترتيبه البروتوكولي الثالث بصفته النائب الثاني لرئيس التجمع الدستوري الديموقراطي بعد النائب الأول حامد القروي. ولم يصبح نائب رئيس الحزب الوحيد إلا في الخامس من ايلول من عام 2008.
يذكر أنّ الغنوشي هو أكثر من تولّوا مهمات الوزارة الأولى بعد الهادي نويرة (1970 - 1980) وحامد القروي (1989 - 1999).