الدار البيضاء | لم يشذّ المغرب عن البلاد التي استهدفها تنظيم «القاعدة»، فقد شهد تفجيرات في مدينة الدار البيضاء عام 2003، توّرط فيها إسلاميون متطرفون، واتهم التيار السلفي بالمسؤولية جراء نشر مثل هذا التفكير المتطرف. ومن خلال محاضر الشرطة، برزت تسمية «السلفية الجهادية»، التي أصبحت وسائل الإعلام تصف بها السلفيين وكل إسلامي متهم بـ«التطرف». وتحت هذه الشبهة _ التهمة، قامت الأجهزة الأمنية بحملة اعتقالات واسعة في صفوف الإسلاميين، وخصوصاً السلفيين منهم، الذين تصفهم الأجهزة بـ«الجهاديين». وخلال سنوات متعددة (ما بين 2003 و2007)، تمّ احتجاز واعتقال أكثر من 12 ألف شخص، حسب إحصائيات غير رسمية، بتهمة أو شبهة الانتماء إلى هذا التيار، الذي لم يتبنّه أيّ شخص خارج محاضر الشرطة أو في وسائل الإعلام، وزجّ بالكثير من هؤلاء في السجون، بعدما خضعوا لمحاكمات، غالباً ما كانت تنتقدها الهيئات الحقوقية المغربية والدولية لعدم احترامها لشروط المحاكمة العادلة. وصدرت ضدّ المتهمين أحكام بالسجن وصفتها المنظمات الحقوقية بـ«القاسية»، و«غير المنصفة». وحتى قبيل حراك الشارع المغربي بتأثير من رياح الربيع الديموقراطي، كان مجرّد إعفاء اللحية أو ارتداء اللباس «الأفغاني» دليلاً لشبهة الانتماء إلى هذا التيار قد يؤدي إلى الاعتقال والتعذيب والسجن. السجن أكبر مدرسة
داخل السجون تكوّن أول تجمّع للتيار السلفي، حيث أصبح لهذا التيار أتباعه داخل السجن وخارجه، شيوخه ومنظروه ورموزه، بل وضحاياه وشهداؤه. وتحوّل السجن إلى أكبر «مدرسة» للاستقطاب، والتكوين، والتأطير، والتعبئة في صفوف هذا التيار. خارج السجن تمتّ محاصرة أصحاب هذا الفكر، حتى أولئك المعتدلون من بينهم، وغالباًَ ما اتخذت أفكارهم و«فتاواهم» حجّة لمحاربتهم ومحاصرتهم، وأحياناً لإجبارهم على الهروب خارج المغرب، كما حصل مع أحد شيوخ التيار السلفي التقليدي، محمد بن عبد الرحمن المغراوي، الذي أفتى عام 2008 بزواج القاصرات من عمر تسع سنوات، ولما أمرت النيابة العامة بفتح تحقيق قضائي في «فتواه»، اختار الشيخ الموجود في السعودية المكوث فيها، وظلّ هناك منفياً حتى اندلع «الربيع العربي» في تونس ووصلت شظاياه إلى المغرب، فأوحي إلى الشيخ المنفي بأن يعود إلى المغرب. عاد عودة الفاتحين، واستقبل استقبال الأبطال في المطار، وما إن وطئت قدماه أرض المغرب، في عزّ الحراك الشعبي في شهر شباط عام 2011، حتى أفتى من جديد، وهذه المرة لصالح النظام، بتحريم التظاهر ضد «أولي الأمر». وتحوّل هذا الشيخ من مطلوب للعدالة إلى حليف للسلطة، يزوره وزير العدل في مدارسه «الدعوية».
لقد قلب الحراك الشعبي، الذي قادته حركات شبابية، مدعومة بقوى ديموقراطية وبتيارات إسلامية، المعادلة وتحوّل التيار السلفي من «عدو»، أو على الأقل «فزاعة»، إلى حليف للسلطة والنظام في مواجهة قوى التغيير. وفيما كانت السلطة ترفض حتى مراجعة أحكام بعض السلفيين المعتقلين، قامت، وبدون سابق إنذار، بإطلاق سراح أربعة من رموز هذا التيار، وهم محمد الفيزازي، ومحمد أبو حفص رفيقي، وحسن الكتاني، وعمر الحدوشي. وباستثناء عمر الحدوشي، أثنى الثلاثة الآخرون على «العفو الملكي»، فيما كانوا في السابق يرفضون التماسه بدعوى أنهم أبرياء مما نسب إليهم.
وبمجرد مغادرتهم السجن، أعلن المشايخ الأربعة دعمهم للإصلاحات التي أعلنها الملك، وأثنوا على الدستور الجديد، الذي قاطعت الحركات الشبابية وبعض فصائل اليسار وأكبر حركة إسلامية سياسة (العدل والاحسان) الاستفتاء عليه. وتحوّل محمد الفيزازي إلى أهمّ مدافع عن النظام، وتصدى عبر مقالاته وفتاواه لكلّ قوى التغيير، وذلك من أجل سعيه لتأسيس حزب سياسي، لكن السلطات لا تزال تغلق هذا الباب أمام التيار السلفي.
«خزان انتخابي»
في الانتخابات الأخيرة، التي شهدها المغرب، نزل التيار السلفي بثقله في العديد من المدن لدعم حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي، الذي نشأ أغلب أعضائه وقياداته في حضن التيار السلفي. وكانت المفاجأة في حصول الحزب على الغالبية شبه المطلقة في مدن مثل مراكش وطنجة حيث الحضور القوي للتيار السلفي. وحتى عندما سئل رئيس حزب «العدالة والتنمية»، عبد الإله بنكيران، عن دعم السلفيين لحزبه في الانتخابات، لم ينفِ وجود هذا الدعم، وإن كان قد رفض الكشف عن حجمه. فبنكيران، مثل السلطة، عرف أن هذا التيار يشكّل قاعدة انتخابية كبيرة تستغلها لمواجهة خصومها وللترويج لطروحاتها، ويسعى الحزب الذي يرأس الحكومة إلى الاستعانة بها كـ«خزان انتخابي» لتعزيز صفوفه، وتقوية مكانته على الساحة السياسية.
لكن مع هدوء الشارع المغربي، بدأت السلطة تعود إلى «عاداتها» القديمة، وبدأت ترى في التيار السلفي خطراً قادماً لا يمكن الثقة بشيوخه أو الاطمئنان إلى أفكاره والتحكّم في أتباعه. فكانت «الردة» الأولى هي تراجع السلطة عن مراجعة الأحكام الصادرة ضد أبناء هذا التيار القابعين في السجون، ما أجّج الصراع من جديد بين السلطة وهذا التيار، وإن أخذ حتى الآن طابعاًَ حقوقياً. وفي خضمّ الصراع الفكري الذي تشهده الساحة الإعلامية المغربية، بين أصحاب هذا التيار والتيار العلماني والحداثي المحسوب في بعض أجنحته على السلطة، سرعان ما اصطفت السلطة وإعلامها إلى جانب حلفائها العلمانيين والحداثيين ضد السلفيين، كما حصل أخيراً عندما أصدر أحد شيوخ التيار السلفي، الشيخ عبد الله نهاري، فتوى بالقتل ضد صحافي عبّر عن رأيه في الحريات الفردية. وكلاهما، الشيخ السلفي والصحافي، وقفا معاً خلف السلطة ضد قوى التغيير وحراكه، لكن عندما وُضعت السلطة أمام هذا الاختيار الصعب، اختارت الوقوف إلى جانب الصحافي ضد السلفي، وفتحت تحقيقاً ضد تصريحاته التي قادته إلى المحاكمة.
هذه المحاكة تكاد تختزل موقف السلطة المضطرب والمزدوج تجاه هذا التيار الذي تحتاج إلى دعمه في مواجهة دعوات التغيير ومطالب التيارات الشبابية وأحزاب يسارية، وفي الوقت نفسه لا تطمئن إلى أفكاره ولا تثق بشيوخه، خاصة بعد الأحداث التي شهدتها دول الجوار في تونس وليبيا ومصر، وكان أبطالها رموز هذا التيار ومشايخه وأتباعه، الذي يكبر اليوم في الحديقة الخلفية للسلطة قبل أن ينقلب عليها.
تأسيس أنصار الشريعة
على غرار تسميات الحركات السلفية في دول المشرق، أعلنت فعاليات سلفية تأسيس تنظيم سلفي وسياسي جديد تحت اسم «تنسيقية أنصار الشريعة بالمغرب». وفي البداية حيث ظهرت الحركة برمز «الجرار» مصحوباً بجملة «أبناؤكم في خدمتكم... أنصار الشريعة... حملة لننشر شريعتنا»، قبل أن تقوم بتغييرها إلى شعار «لا إله إلا الله محمد رسول الله» مكتوبة داخل راية سوداء ومرفقة بالآية الكريمة «ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون».
وحسب «الورقة المذهبية» للتنسيقية، التي عرّفت عن نفسها كإطار دعوي تربوي وسياسي سلمي، فإن الغاية من تأسيسها هي «التحذير من العلمانية والقوانين الوضعية، والدعوة إلى تحكيم الشريعة والمساهمة في عودة دولة الخلافة كنظام سياسي جامع لوحدة الأمة»، معتبرة العلمانية «غرساً خبيثاً ودخيلاً على الأمة وثقافتها، وهي كفر بواح ومروق ظاهر عن الدين».
وتضيف الوثيقة، المعممة على صفحة التنسيقية في فايسبوك، أن الواقع «المتردي وشيوع حالة الظلم والاستبداد السياسي والفساد والتخلف بكل أشكاله «من أبرز دواعي تأسيس أنصار الشريعة بالمغرب»، و«خلو الساحة من قائم لله بالقسط... يدعو لحكم الشريعة»، معتبرةً أن الجماعات الإسلامية تراجعت عن تحكيم الشريعة «تحت ضغط الواقع».
أما عن وسائل عمل التنظيم، الذي نفى ارتباطه بالتنظيمات الخارجية كأنصار الشريعة باليمن والسعودية وليبيا وتونس، فتورد الوثيقة _المرجع أن التنسيقية ستعتمد تكوين «رأي عام ملتزم بالشرع» ودعوة الناس إلى الالتزام «بالدين وأداء الواجبات والكفّ عن المحرمات، وهجر المبتدعات والتحلي بالأخلاق الفاضلة»، و«تحريك الشارع المسلم بالخطاب الشرعي الملتزم لنصرة قضايا الأمة»، عن طريق منابر المساجد والدروس والتجمعات والملتقيات وتوزيع الكتب والمنشورات، و«سنستغل هذا الهامش من الحرية الذي أتاحته ثورات الربيع العربي» تضيف الوثيقة.



الوجه السياسي لتصدير الوهابيّة


بالرغم من أن بعض تيارات الإسلام السلفي تعلن معاداتها للأنظمة الخليجية، وعلى رأسها السعودية، بل وتحارب هذه الأنظمة كما يفعل تنظيم «القاعدة»، إلا أن السلفيين لا يستطيعون الإنكار أنهم خرجوا من رحم الفكر الوهابي الذي تتخذه المملكة العربية السعودية مذهباً رسمياً لها. ومن خلال هذا الفكر وباستعمال إغراء التمويل، تسعى السعودية إلى السيطرة على أصحاب هذا التيار.
وقد بدا ذلك واضحاً من خلال الدعم المالي المباشر للتيار السلفي في الانتخابات المصرية ضد حركة الإخوان المسلمين التي تحظى برعاية ودعم من قطر، إذ نجح شيخ الإخوان ومنظرهم يوسف القرضاوي (الصورة) في أن يوجّه تمويلها وإعلامها لنصرة فكر «الإخوان» في مصر، وتونس، وليبيا وسوريا.