في الوقت الذي كان فيه الكنيست الإسرائيلي يمارس دوره الإجرائي ويصدّق في قراءة أولى على مشروع قانون لحل نفسه، ويستعد للقراءة الثانية والثالثة، وبموازاة خطاب تمهيدي للسير نحو انتخابات مبكرة، كان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يقود، على خط ثانٍ، عملية تفاوض سرية للغاية أثمرت صفقة كان لها وقع الصدمة في الوسط السياسي في إسرائيل.
الصفقة التي جرت حياكتها تحت جنح الظلام، أكسبت نتنياهو، الرابح الأكبر فيها، لقب «ملك» اللعبة السياسية الداخلية، فيما استحق معها رئيس حزب «كديما» شاؤول موفاز، الذي احتل المرتبة الثانية في قائمة الرابحين، لقب «الانتهازي» الذي لا يرى في كل المشهد إلا ما يحقق له طموحاته الشخصية.
وكما هو متوقع، قدم نتنياهو نفسه، في مؤتمر صحافي مشترك مع موفاز، كزعيم يحمل هم تحقيق الاستقرار السياسي لإسرائيل، دفعه في مرحلة أولى إلى السير في انتخابات مبكرة، ولكن «عندما رأيت أني قادر على تشكيل ائتلاف واسع، (من خلال الاتفاق مع كديما) اكتشفت أنني أستطيع العودة إلى الاستقرار من دون الذهاب إلى الانتخابات».
أمّا موفاز، فقد قدّم نفسه، كزعيم يصحّح خطأ عدم المشاركة في حكومة نتنياهو الذي ارتكبته سلفه في رئاسة «كديما»، تسيبي ليفني، التي قالت تعليقاً على الاتفاق – الصفقة: «أعرف تماماً ما تشعرون به بعد أحداث الليلة الماضية، ولكن تذكّروا أن هناك نوعاً آخر من السياسة، هو الذي سينتصر في نهاية المطاف».
وبحسب نص الاتفاق، سيقدّم «الليكود» و«كديما» اقتراح قانون، في شهر تموز المقبل، بديلاً لقانون «طال»، يسمح للمتدينين «الحريديم» بتجنب الخدمة العسكرية، ويوفّر «التقاسم العادل والمتساوي» لعبء الخدمة في الجيش الإسرائيلي، على أن يتولى أعضاء كنيست من حزب كديما رئاسة ثلاث لجان برلمانية تتضمن لجنة الخارجية والأمن.
هذا بالإضافة إلى اتفاق بشأن موازنة الدولة، وطرح خطة طوارئ اقتصادية، تتناسب مع الأزمة الاقتصادية العالمية، وتسعى إلى تعزيز الطبقتين الوسطى والفقيرة. كذلك تناول الاتفاق، التزام إعادة إطلاق العملية السياسية مع السلطة الفلسطينية.
وكالعادة، استغل نتنياهو المناسبة لتوجيه رسالة إلى رئيس السلطة محمود عباس، كي يستفيد من فرصة تشكيل حكومة جديدة برئاسته من أجل استئناف المفاوضات، مذكّراً بأن «لدى كلا الجانبين تنازلات صعبة للقيام بها».
بدوره، حث موفاز الفلسطينيين أيضاً على «إظهار القيادة للأجيال المقبلة» من خلال التوصل إلى اتفاق سلام، مكرّراً طرحه السابق بشأن ضرورة توصل إسرائيل والسلطة إلى اتفاق مؤقت قبل الاتفاق الدائم، ومشيراً إلى أن هناك «غالبية واضحة تؤيد التنازل عن الأراضي».
وبخصوص ردود الفعل، اتصل رئيس الدولة شمعون بيريز بكل من رئيس الحكومة ورئيس «كديما»، الذي هنأه على قراره الانضمام إلى حكومة الوحدة، معتبراً أن «فرصة تاريخية تشكلت لتغيير عميق في القضايا الجوهرية وأن كديما لبى التحدي».
كذلك، أعرب قادة الأحزاب الحريدية عن عدم خشيتهم من انضمام «كديما» إلى الحكومة، ودعا رئيس حزب شاس، وزير الداخلية إيلي يشاي، رئيس الوزراء «للمحافظة على تحالفه التاريخي معنا لمواصلة الطريق»، فيما أكد نائب وزير الصحة عن كتلة «يهدوت هتوراة» الحريدية، يعقوب ليتسمان، أن «رئيس الحكومة تعهد لنا أن الاتفاق الائتلافي لن يتغير»، كذلك أعرب عضو الكتلة نفسها رئيس لجنة المالية موشيه غفني، عن فرحته لعدم إجراء انتخابات لا طائل منها. وبخصوص البديل لقانون «طال»، أضاف غفني: «سنتوصل إلى بديل بالتوافق بين كل الأطراف».
وعبَّر مصدر حريدي، لموقع «يديعوت أحرونوت» الإلكتروني، عن اطمئنانه بالقول إن موفاز ليس كـ«ليفني»، معادياً للحريديم. وعن تغيير طريقة الحكم، الذي يُفترض أن يُقلِّل قوة الأحزاب الصغيرة، عبّر يشاي عن عدم خشيته من أن يهدد هذا الأمر وجود هذه الأحزاب، ولافتاً إلى أن ذلك من مصلحة موفاز الذي يعلم أن ذلك يمكن أن يمس بـ«كديما» نفسها في الانتخابات المقبلة.
هذا وكان لافتاً ترحيب حزب «إسرائيل بيتنا»، الذي سبب موقفه من قانون «طال» الدفع نحو انتخابات مبكرة، بالاتفاق. وأصدر بياناً رأى فيه أن «الامتحان الحقيقي أمام هذا الائتلاف الجديد هو تقديم قانون يجعل الخدمة الوطنية الزامية للجميع»، مشكّكاً بمحتوى الاقتراح الذي سيخرج عن اتفاق «كديما» ــ «الليكود»، لجهة إمكانية أن يكون نسخة ثانية عن «قانون طال».
أما بخصوص الأحزاب المعارضة، الأكثر تضرراً، فانتقدت بشدة الاتفاق بين الحزبين، وبادرت رئيسة حزب العمل النائبة شيلي يحيموفيتش، التي تصدرت قائمة الخاسرين وتحولت إلى رئيسة المعارضة في الكنيست، إلى وصف الاتفاق بـ«معاهدة الجبناء». وقالت إنه «التحول الأسخف في تاريخ إسرائيل السياسي». لكنها بالرغم من ذلك حاولت أن تقرأ جوانب إيجابية في ما جرى لجهة أنه سيؤدي إلى «دفن كديما نهائياً»، وهو ما يوفّر «فرصة مهمة ونادرة لقيادة المعارضة، وسنقوم بذلك بكل طاقة وإيمان». أما رئيسة حزب «ميرتس» اليساري، زهافا غلاؤون، فقالت لإذاعة الجيش إن «ائتلافاً من 94 عضو كنيست هو ديكتاتورية تقريباً»، لكونه يمكّن نتنياهو من «إمرار أي قانون يرغب به الآن».
أما رئيس حزب «يوجد مستقبل» الجديد، الإعلامي يائير ليبيد، فرأى أن الاتفاق بين الحزبين يدل على استمرار الممارسات السياسية الفاسدة السابقة القائمة على توزيع الكراسي والمناصب بدل اعتماد المبادئ.
الاتفاق الجديد كان له وقعه أيضاً على وسائل الإعلام التي رأت أنه حوّل نتنياهو إلى أحد أقوى رؤساء الوزراء في إسرائيل منذ قيامها، وأحد أذكى السياسيين الذين عرفتهم الساحة الإسرائيلية، بعدما ضمن لنفسه سنة ونصف من البقاء في الحكم من دون عمليات ابتزاز، وبما يمكنه من القيام بخطوات دراماتيكية في المجالات المدنية، والسياسية أو الأمنية.
ورجحت صحيفة «هآرتس» أن يبدأ موفاز ونتنياهو بتوجيه تلميحات في الفترة القريبة حول «التحديّات التي تواجه إسرائيل» للإيحاء بإمكانية شنّ هجوم على إيران بهدف تبرير انضمام موفاز إلى الحكومة.
أيضاً، رأت تقارير إعلامية إسرائيلية أخرى أن ما جرى كشف عن أن موفاز كان يرتعد من الخوف، بفعل نتائج استطلاعات الرأي التي توقعت تفكك «كديما» برئاسته، وبعدما فهم أنه سيتحول في اليوم التالي للانتخابات، إلى مزحة حزينة في السياسة الإسرائيلية. ورأت تلك التقارير أن كلاً من نتنياهو وباراك وموفاز ويشاي وليبرمان وبقية الوزراء وأعضاء الكنيست، تلقوا سنة مريحة لهم في السلطة، فيما كل البقية هم خاسرون.
إلى ذلك، رأت «هآرتس» أن الاتفاق بين نتنياهو وموفاز، هو بين شخصيتين، الأولى تتمتع بقوة كبيرة والأخرى بضعف شديد، وجرت حياكته «في الوقت الذي كنا نائمين فيه، وتحت أنوفنا جميعاً، أعني الساسة والصحافيين». ورأت الصحيفة أيضاً أن كل ما جرى قبل ذلك كان خداعاً وتعمية، سواء في ما يتعلق بهجمات موفاز الشديدة أو خطبة نتنياهو في مؤتمر «الليكود». أضافة إلى مشاورات موفاز مع رفاقه في الحزب، وفوق كل ذلك الإجراء البرلماني بالتصديق في القراءة الأولى على حل الكنيست، واصفة كل ذلك بـ«الفكاهة الكبيرة».
أما بخصوص مكاسب الدولة من كل ذلك، فأوردتها «هآرتس»، وفق الآتي: «اقتراح بديل لقانون طال الذي سيزول مفعوله في نهاية تموز، وموازنة مضبوطة، وقانون لتغيير طريقة الحكم». ثم تساءلت عن السؤالين الكبيرين في هذا الاتفاق: إن كان سيدفع تشكيل حكومة واسعة جداً بخيار مهاجمة إيران، رغم أن موفاز من معارضيه، أو ستعبّد الطريق أمام المفاوضات مع السلطة الفلسطينية. ثم أكدت أن أمراً كهذا لن يحصل قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني المقبل. وشددت «هآرتس» على أنه في حال تنفيذ المادتين الرئيسيتين في الاتفاق، تجنيد «الحريديم» وتغيير طريقة الحكم، يصبح نتنياهو ملك إسرائيل، فيما هو الآن ملك المؤسسة السياسية.



اتفاق «ورقة التوت»


الاتفاق بين رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ورئيس حزب «كديما» المعارض، شاؤول موفاز (الصورة)، لم يرقَ إلى حد إقناع الإسرائيليين بجديته، وكونه الدافع، وراء تشكيل حكومة الوحدة. فقد جرى التعامل معه على أنه «ورقة التوت» التي مكّنت موفاز من تجاوز مواقفه الحادة والمعارضة للحكومة ورئيسها، ومن بينها الأداء الحكومي والتهديد بتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران، إضافة إلى وصفه نتنياهو، بالكاذب والجبان. ولعل أهم النقاط الواردة في الاتفاق، هي أن ينضم «كديما» إلى ائتلاف الحكومة، ويشغل موفاز منصب نائب رئيسها، بالإضافة إلى الانضمام إلى كل اللجان الرئيسية فيها، ومن بينها المجلس الوزاري المصغر، وسن قانون «عادل ومتساوٍ»، بدلاً من قانونه «طال »، وتغيير جوهري في نظام الحكم، والترويج للمفاوضات مع الفلسطينيين؛ وزيادة الأمن الشخصي للإسرائيليين وتقسيم أموال الدولة بطريقة متساوية.