عندما التقيتها أول مرة لحظتُ لهجتها المتعثرة، كنتُ أظن أنها مثلي، لبنانية من أُمٍ فلسطينية، صديقتي هذه كانت عضواً في الكشاف التابع للكنيسة في منطقة عين الرمانة، متابعة للنشاطات الدينية، أحبّت شاباً لبنانياً مسيحياً حتى انفصلا لأسبابٍ لم أعرفها إطلاقاً، كانت، باختصار، نموذج الفتاة المتدينة التي لا علاقة لها بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد. كانت تقول إنها من سكان عين الرمانة، حتى ذهبت إلى منزلها أول مرة لأكتشف أنها تعيش في منطقة الشياح! مسيحية هي، والأهم من ذلك أنها فلسطينية! نزح أهل صديقتي من مخيم الضبية إلى عين الرمانة، ومنه إلى الشياح. لم تلجأ العائلة الى هناك بسبب تهديد الميليشيات، ولا بسبب حصار المخيم، بل لأنها وببساطة قررت عدم التنازل عن الجنسية الفلسطينية مقابل اللبنانية! هذا كان اللجوء الثاني بالنسبة إليهم، بعد اللجوء الأول من فلسطين.
أما اللجوء الثالث، إلى الشياح فله أسبابٌ مختلفة: إذ إن العائلة لم تستطع التأقلم في المنطقة ذات الطابع الحزبي الواحد «كيف بدي كون فلسطيني قوّاتي؟!» يقول أبوها بسخرية. لجوء الفلسطينيين إلى لبنان كان أيضاً ديموغرافياً - طائفياً، أي أنهم وزعوا على مخيمات تناسب طائفتهم الدينية، المسلمون في مناطق المسلمين، والمسيحيون في مناطق المسيحيين، أما أهالي القرى السبع، فهم معضلة مختلفة! لا يذكر والد صديقتي أنهم تعاركوا مع الميليشيات اللبنانية. أمر يجعلك تعيد النظر في أسباب الحرب والكره، أهي فعلاً بسبب حجة «احتلال الفلسطينيين للبنان» كما يدّعون أم بحجة «بعبع التوطين» أم هي بعيدة عن كل ذلك، وقد تكون بحت طائفية؟ ويجعلك أيضاً تُفكر في ما إذا كان منح الجنسية لمعظم الفلسطينيين المسيحيين له أسبابه الطائفية أيضاً! مع العلم أن الحجة الأكثر شعبية مقابل منح الفلسطينيين الحقوق المدنية والاجتماعية هي «التوطين»، فلماذا توطين نسبة من الفلسطينيين دون غيرها؟ صديقتي لم تكن تكترث لكل هذا، بالعكس، لطالما أرادت الجنسية اللبنانية لما تمنحه لها من امتيازات، على الأقل على المستوى الاجتماعي كما تقول. تاريخ وجغرافيا فلسطين مبهم بالنسبة لها، لا تتحدث باللهجة الفلسطينية إلا أمام عائلتها، وأمامي في مناسبات معينة!
تدخل منزلها، تجد صوراً لها تملأ الحائط بجوار صور مريم العذراء وذلك الصليب الخشبي، لا صور حزبية ولا صور قيادات شعبية. تجتمع النسوة عندهم أغلب الصبحيات، معظمهن من المحجبات، لكن من يهتم!
تركت العائلة السياسة خارج بابها، لتعيش بتآخٍ مع المحيط بكامل إرادتها وعن طيب خاطر. اما الاندماج فلم يمنعها من التشبث بهويتها: فلسطينيون وفخورون بذلك ولا بد أن يعودوا في يوم ما.. ان شاء الله قريب.