صيدا | أكمة من الأكياس المتراكمة والمصرورة على ما يبين ولا يبين. رائحة كريهة تفوح من المكان، لكن وطأتها، كما يقول بعض السكان تبقى «اقل نفاذاً من رائحة انعدام الضمير الانساني العاجز حتى اللحظة، عن انقاذ مشردين تضعهما قساوة الحياة على حافة الموت في الشارع». الدنيا برد، اشد برداً من اي سنة مضت. الأبيض يكلل حتى الهضاب القريبة من الساحل. انباء عن قتلى بالعشرات في اوروبا، لانعدام الملجأ الدافئ. وهنا، يقبع الأخوان محسن وجمال بورشلي. وتعود قصة الاخوين الى ان والدهما علي، بعد تشرده عام 1948 من بلدته عكا، اقام في منزل عند «ميرة» البحر في صيدا. هذا المنزل دمر خلال اجتياح الصهاينة للبنان عام 1982.
تشردت العائلة مجدداً، اما محسن، الذي يبلغ حالياً 63 عاما، فاستأجر وشقيقه جمال شقة صغيرة في منطقة دوار القدس. لكن بؤسهما المادي كلاجئين منعهما من تسديد إيجارها، فانتقيا كراجاً صغيراً بالقرب منها حوّلاه الى منزل ومستودع لجمع الخردة. لكن «المأساة اتسعت»، فقد اصيب جمال (51 سنة) قبل سنوات بمرض في قدميه جراء سمنة زائدة جعله طريح الفراش، أما محسن، فقد وقع اثناء عمله في حفرة مصعد، وعولج من السقطة بوضع جهاز ما في رأسه، ابقاه على قيد الحياة، لكنه اثر على حركته وقوة تركيزه. «بيوجعلي راسي، وبيدوخني» يقول محسن.
قبل سبع ست سنوات احترق الكراج نتيجة احتكاك كهربائي، فأتى على محتوياته من بلاستيك وعبوات تنك وثياب رثة وكرتون وما شابه ذلك من خردة يجمعها محسن و«يتسبب» من بيعها. هكذا، انتقلا للعيش.. تحت سقف شرفة في المكان ذاته.
وهناك عثرنا على محسن بين اكياس مملوءة بالكراكيب، عتمة خرقها بريق عيني الرجل الذي طلبنا منه الخروج من عتمته «كي نحكي ونشوف بعضنا»، فكان رده، «لشو الحكي؟»، لكنه اضاء، في الوقت ذاته، لمبة بنور خافت كانت كافية لرؤية.. الواقع المفجع. مأوى اشبه بمعتقل للأشغال الشاقة، اكياس للفرز جاء بها من جولته الصباحية على دراجة يحمّل عليها غلته من البلاستيك والخرضوات. في المكان حجارة باطونية وتنك وضع محسن فوقها وسادات متسخة جدا لتكون بمثابة فراش للنوم. بالقرب منها كسرات خبز وحبات بصل وبندورة بدت كأنها وجبة غذاء. وكالمشردين الذين لا تتوفر لديهم أدوات العناية الشخصية فضلاً عن المياه الجارية، اطلق محسن العنان للحيته المهملة والمتسخة، اما ثيابه فرثة وبقدميه «شحاطة» اختلفت فردتها عن الاخرى. تترقرق الدموع في عينيه وهو يقول «الشكوى لغير الله مذلة»، قبل ان يردف «شو بعد في اكتر من هيك مذلة؟ انا وخيي عايشين من قلة الموت». ثم يستدرك فيسأل بمرارة «شو ما فطستوا من الريحة؟ اهربوا احسن ما تموتوا». يسكت قليلاً لصمتنا ويتابع الكلام «سبع سنوات قاعدين بالشارع وما في حدا يهتم فينا».
يروي محسن يومياته لنا «بلملم تنك وببيعها بثلاثة آلاف ليرة باليوم، ما في بديل. مبارح رحت لجيب دوا من عند الانروا ما عطيوني، قالوا لي خود بنادول! من الوجع عم كزّ ع اسناني. تقطعت اوتار يدي ويلزمها عملية، كنت عم حلّ مشكل بس طلعت الفلّة فيي».
ولكن اين المؤسسات الاجتماعية في صيدا؟ هل هي مقصرة بحق الأخوين البورشلي؟ اجاب محسن (او سليم كما ينادونه بالحي لسبب ما) «ما حدا بيتطلع بوضعنا المأساوي» مردفاً كمن تذكر «في جمعية صيداوية خيرية بتعطيني مونة كل شهرين، رحت عند جمعية للحزب (قاصدا حزب الله) اعطوني 50 الف ليرة، صندوق الزكاة في دار الفتوى اعطوني ايضاً خمسين الف ليرة كمان، اما المنظمات الفلسطينية فما بيعطونا أشي... ولا حتى سيكارة». ما يحصله من بيع للخردة يكفيه فقط لقوت يومه «بطبخ البندورا» يقول.
في الداخل، في عمق المكان، نلحظ «بوابة» تؤدي الى ما يشبه المنور. حركة ناشطة للجرذان والقطط، عززها وجود فوهة ريغار المجاري، وسط مأوى الاخوين. يبدو محسن متآلفاً مع المخلوقات الاخرى من الحشرات والجرذان والقطط السارحة هنا باطمئنان. يقول «ما تخافوا منها ما بتعضني»، تحبك معه النكتة فيؤكد لنا أن لسعات البرغش طالتنا «لأنكم غرباء».
يشرح محسن بإسهاب معاناة شقيقه جمال ومرضه. يقول انه بحاجة الى رعاية خاصة غير متوافرة «حتى النظافة مش موجودة وجمال لازموا دواء وطبابة». يقول ذلك ثم يشير باصبعه الى اخيه الذي لم نكن نراه لولا انتباهنا بعد تعود العينين على العتمة النسبية الى جسد ضخم ملقى على فراش رث غارقا في ظلام دامس، «منذ سنوات لا يرى النور. ماذا افعل؟ لا وجود لكرسي متحرك لكي اخرجه الى الضوء قليلاً». يبدو أن جمال تنبه لأمرنا بتلك الإشارة، فعلا صوته شاكياً «خافوا الله، جايين تفضحونا؟».
نريد مساعدتكم، قلنا له. لكنه اجاب «لو كنتم تريدون ذلك لوجه الله لما حملتم كاميرا واخذتم تصورونا»!. فجأة «يقتنع» محسن بوجهة نظر أخيه. الفقراء يخافون «الفضيحة». العيش في الوسخ، في الشارع، من الزبالة.. هذه فضيحة بالنسبة اليهم. وبرغم كل الانحطاط الاجتماعي، يريدون الاحتفاظ ببعض انسانيتهم. من يلومهم على ذلك؟. ولكن، يبدو أن هذا الموقف، العدائي من الخارج، يؤثر على تضامن اهل الحي معهم. فهؤلاء، حسب ما فهمنا، يحاولون المساعدة بحدود استطاعتهم فيقدمون مأكلاً ومشرباً لهما، «بس هني مسكرين ع حالهم ونحن مش مزعوجين الا عليهم وعلى هذا الوضع» يقول تاجر محله بالقرب منهما. اما الروائح الكريهة المتصاعدة من مأوى المشردين فقد «فاقمت الوضع»، كما يقول احد الجيران. مردفاً «الرائحة باتت تزكم انوف أبناء الحي، والجرذان باتت تدخل بيوتنا»، يقول محمد طايش الساكن في الحي، متسائلاً: ما العمل؟ قبل ان يجيب «المطلوب حملة تنظيف لكي يعيشا على نظافة، اهل الشقة (القديمة) ناس كتير اوادم وبتنحل معهم». الطايش وضع خطة لإنهاء مأساة الاخوين البورشلي. كيف ذلك؟ «اذا حلينا مشكلة جمال (المقعد بسبب سمنته المرضية) حلينا نصف المشكلة»، يقول مضيفاً «مطلوب توفير كرسي متحرك ضخم لنخرجه من سجن يصر على البقاء فيه، ليرى نور الشمس المحروم منها منذ سنوات. وهذا اثر بالتأكيد على نفسيته». يتصوّر، وقد يكون الحق معه، انه متى خرج جمال وتحسنت اوضاعه النفسية، فمن الممكن ايواؤه في مركز صحي مجاني لتلقّي العلاج. ثم «نبيع الكراكيب والخرضوات، نحدد سقفاً لمصروف الأخوين، ونجد لهما سكنا صحياً لائقاً». الجيران اعربوا عن استعدادهم «للتطوع في تنفيذ خطة انقاذ حياة الاخوين، لكن المطلوب الآن حملة تنظيف سريعة لنستطيع الدخول على الاقل».



على بعد أمتار من مكان لجوء الأخوين بورشلي، شعار بهت لونه على جدار يقول: «لن يقوى علينا الموت وسننتصر»، ذُيّل باسم فصيل فلسطيني «اندثر» راهناً وبات نسياً منسيّاً. يبدو الشعار عنواناً ساخراً لواقع اللذين يجاورانه. أما سكان الحي، الذين هالهم اكتشاف مأساة الأخوين، فقد صبوا جام غضبهم على «جمعيات تدّعي حرصها على كرامة الإنسان»، في حين أنها تمرّ بجانب مأساة بهذا الحجم، مروراً «غير كريم»، وهو سلوك لم تعتده بلادنا. كذلك «قصف» هؤلاء الأهالي عمر وكالة الأونروا والمنظمات الفلسطينية لتجاهلها مأساة إنسانية حقيقية كهذه.