بينما كانت قيادات من جماعة الإخوان المسلمين تخرج من مكتب رئيس الحكومة كمال الجنزوري، كان الدكتور محمد البرادعي يعلن بيان انسحابه من الترشح إلى منصب رئيس الجمهورية. التوقيت ليس صدفة، لكنه ذهاب إلى الخنادق وتجييش في معركة تبدو قريبة بين الثورة والسلطة. هل اختار البرادعي الثورة، واختارت الجماعة السلطة؟ مصر إذن في مفترق طرق قبل أيام على مرور عام على «ثورة لم تكتمل»، كما يراها ثوار ينظرون إلى المجلس العسكري كحامي النظام، ويراهم المجلس العسكري مخربين يسعون إلى إسقاط الدولة.
البرادعي اختار الخروج من لعبة تجري تحت قبضة «الأخ الأكبر «الباحث عن موقع الأبوة الشاغر». إلى أين؟ المعلومات تقول إن البرادعي اجتمع مع مجموعة من المجلس العسكري الأسبوع الماضي. التفاصيل لم تعلن، ولا وردت في بيان الانسحاب الذي يأتي غالباً كنتيجة» لهذا الاجتماع.
هل اكتشف البرادعي أن فرصته في الرئاسة «ضاعت مع ترتيبات تجري في الغرف المغلقة بين العسكر والإخوان المسلمين للاتفاق على مرشح «يكمل البناء الجديد للسلطة؟ أم أدرك أن الصفقة أقوى من تحديها التقليدي بالوقوف في طابور المرشحين المحتملين؟
البرادعي، في بيانه، ذهب إلى أن سفينة الثورة طريق صعب تقاذفتها أمواج عاتية، وهي تعرف مرفأ النجاة جيداً وتعرف طريقة الوصول إليه، ولكن الربان الذى تولى قيادتها ــ دون اختيار من ركابها ودون خبرة له بالقيادة ــ أخذ يتخبّط بها بين الأمواج من دون بوصلة واضحة، ونحن نعرض عليه شتى أنواع المساعدة، وهو يأبى إلّا أن يمضي فى الطريق القديم، وكأن ثورة لم تقم، وكأن نظاماً لم يسقط».
إنها نظرة ترى الثورة في طرف والمجلس (أو ربانها) في طرف مناقض أدخلنا في متاهات وحوارات عقيمة، في حين انفرد بصنع القرارات وبأسلوب ينمّ عن تخبّط وعشوائية في الرؤية، ما فاقم الانقسامات بين فئات المجتمع، في الوقت الذي نحن فيه أحوج ما نكون إلى التكاتف والوفاق، وتواكب مع هذا اتباع سياسة أمنية قمعية تتّسم بالعنف والتحرش والقتل، وبإحالة الثوار على محاكمات عسكرية بدلاً من حمايتهم ومعاقبة من قتل زملاءهم.
يختار البرداعي هنا الوقوف خارج اللعبة التي تحصل وفق إرادة المجلس العسكري وباتجاه إعادة بناء سلطة على الموديل القديم... وهذا ما رأى فيه البعض صفعة «موجهة إلى المجلس العسكري والمتحالفين معه من القوى السياسية»، ومنهم من رأى أنه انتحار سياسي «أو اعتراف بالهزيمة المسبقة». وفسر الفريق أحمد شفيق، رئيس الحكومة الأخيرة لمبارك، بأن انسحاب البرداعي يأتي في أعقاب بداية حملات ترشح شفيق للرئاسة.
التفسير الأخير مضحك، لأن شفيق يواجه رفضاً شعبياً للترشح، إضافةً إلى أن ظهوره يخصم من مرشحين تساندهم بقايا النظام، بينما البرادعي محسوب من البداية على كتل تصويتية مختلفة تماماً.
خروج البرادعي من اللعبة لم يكن بحسابات سياسية، ولكن بروح غاندي، الراغبة في معاندة المزاج السياسي لا خوض المنافسات بقوانينه، وهو ما يمثل ضربة مزدوجة لكل من اعتبر البرادعي رمز الليبرالية في مواجهة رموز سلفية وإخوانية، أو من تعامل على أنه زعيم سياسي يمكنه أن يخوض حرباً في بيئة سياسية غير صالحة.
البرادعي كما جاء من خارج الدائرة غادرها، بعدما شحن المجال السياسي بما كان افتقده طوال ٣٠ سنة حكم فيها مبارك، امتص فيها الطاقة الحيوية وحوّل المجال السياسي إلى مستنقعات راكدة تحتلها طفيليات الانحطاط. لم يكن البرادعي بديلاً سهلاً للجنرال وقت ظهوره الأول بعد العودة في شباط ٢٠٠٩، ولم يكن مؤهلاً للدخول في حرب الآلهة على المقعد الفخم في مصر. كان سهماً قادماً لكسر الدائرة المغلقة على نفسها. سهم حكيم هادئ لا يدّعي امتلاك الحل السحري أو مفاتيح الجنات المغلقة.
البرادعي يغويه دور الداعية السياسي أكثر من السياسي. يرى نفسه في صورة غاندي أو مارتن لوثر كينغ. هذه صورته التي جعلته رمزاً في السياسة لكنه يتردد في العمل السياسي بما يعنيه من اشتباك قتال ودخول في مواجهة مع سنوات طويلة من القمع والقهر والانحطاط.
إلى أين يغادر البرادعي؟ إلى مزيد من السياسة ليؤسّس حزباً كبيراً لليبرالية (الوسطية) أم إلى الميدان والوقوف في الخطوط الأمامية لا الاكتفاء بالضغط لتغيير المجال السياسي؟ هل إلى الانسحاب أو إلى طريق الاختفاء أم قفزة أقوى إلى موقع متقدم؟ سنرى.