باريس | تونس | طوال سنين، كانت وسائل الاتصال الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي هي الأدوات الوحيدة المتاحة للمعارضة التونسية للتعبير عن مواقفها وأفكارها، في ظل القبضة الحديدية التي أُحكمت على وسائل الإعلام التقليدية في عهد الديكتاتور المخلوع زين العابدين بن علي. وقد أدى الـ«نيو ميديا» دوراً بارزاً في تأطير الحراك الشعبي الذي أدى إلى إطاحة النظام التونسي السابق. لذا، كان من الطبيعي أن يحافظ حُكّام تونس الجدد على حضور قوي على شبكات التواصل الاجتماعي؛ لأن أغلبهم كانوا على مدى سنوات من أبرز النشطاء والمدوّنين على الشبكة. منذ وصوله إلى الرئاسة، يسعى منصف المرزوقي إلى إعطاء نموذج مغاير للصورة النمطية للحاكم المعزول في قصره. وحرص على الاستمرار في التدوين على صفحته الشخصية على فايسبوك يومياً (راجع المقالة المنشورة أمس في «الأخبار» عن تدوينات الرئيس التونسي). ولا شك في أن التفاعل المباشر على فايسبوك يتيح للرئيس التونسي أن يتابع تعليقات الناس وآرائهم في ما ينشره، من دون أن يمر ذلك على الفلاتر التقليدية التي كثيراً ما تحجب عن «الحُكام الكلاسيكيين» ما تفكر فيه شعوبهم. وقد استحسن البعض تدوينات المروزقي بوصفها دليلاً على تواضعه ورفضه عزلة الحاكم «البرج عاجية»، بينما استهجنها آخرون ورأوا أنها لا تليق بمقام رئيس دولة.
لكن الأزمة السياسية والأمنية الكبيرة التي شهدتها تونس أول من أمس، على خلفية محاولة «الانقلاب الأمني» التي حدثت إثر إقالة قائد «قوات التدخل»، الجنرال منصف العجيمي، من قبل وزير الداخلية النهضوي علي العريض، كشفت عن خلل كبير في أداء حُكّام تونس الجدد، في الوقت الذي كانت فيه البلاد على حافة الانفلات الأمني. ولوحظ غياب غريب وغير مفسَّر للمسؤولين الحكوميين الذين يفترض أن يعملوا على طمأنة الناس والسهر على استتباب الأمن في مثل تلك الظروف.
الرئيس منصف المرزوقي اكتفى بالتعليق على قرار إقالة الجنرال العجيمي عبر صفحته الشخصية على فايسبوك، معبراً عن تأييده للقرار من خلال التذكير بأن الجنرال المقال كان مسؤولاً عن مذابح حدثت خلال الثورة.
أما وزير الداخلية، علي العريض، فلم يخرج عن صمته، رغم التململ الذي حدث بسبب تضارب التصريحات الصادرة عن كوادر وزارته. ورفض العريض أن يتحدث لأي وسيلة إعلام باستثناء تلفزيون «تواصل تي في» الذي تديره النهضة على فايسبوك.
هذه الطريقة الغربية في إدارة الأزمة أعطت الانطباع بأن البلاد تسير عبر شبكات التواصل الاجتماعي من خلال ما يسمّيه نشطاء المعارضة التونسية «حكّام الكيبورد». تقول الإعلامية ريم السعيدي، التي تشتهر بتدويناتها النارية ضد الائتلاف الثلاثي الحاكم في بلادها: «لا أعتقد أن جميع حكامنا يحررون صفحاتهم الشخصية على الإنترنت بأنفسهم. هناك مستشارون إعلاميون يتولون ذلك في الغالب. وهذا الأمر عادي ومعمول به في دول أخرى، ضمن تقنيات الدعاية السياسية. لكن من غير العادي أو المقبول أن يختار وزير الداخلية، في ظروف التوتر التي رافقت إقالة الجنرال العجيمي، ألا يتحدث إلا لتلفزيون حزبه على فايسبوك. هذه مهزلة سياسية واستخفاف بالرأي العام. وليس الأمر مجرد تهميش مقصود للتلفزيون الرسمي، بل هي شتيمة للتونسين جميعاً. فالوزير لم يهتم بطمأنة الرأي العام أو السهر على استتباب الأمن، بل كان انشغاله الوحيد هو التحدث لأنصاره وأتباع حزبه عبر موقع تلفزيوني دعائي على فايسبوك». وتتابع الإعلامية التي تشتهر ببرامجها الحوارية الجريئة على «نسمة تي في»: «هذه الظاهرة التي بدأ البعض يلقبها بـ«حُكّام الكيبورد» تبيِّن أن من يحكمون تونس اليوم لم ينتقلوا من منطق المناضلين أو المعارضين إلى منطلق رجال الدولة الذين يجب عليهم أن يغلّبوا المصلحة العامة واستقرار البلاد وأمنها على الاعتبارات الحزبية الضيقة. وإذا لم ينتبهوا لهذا الخلل بسرعة، فإنهم سيقودون البلاد نحو الانفلات والهاوية».
من جهته، يقول المحلل السياسي التونسي المقيم في ألمانيا، منصف السليمي: «من حيث المبدأ، لا أرى مانعاً في أن يكون الحُكّام حاضرين على فايسبوك، وأن يتواصلوا مع الناس عبر مدوناتهم. هذه ليست نقطة سلبية في حد ذاتها. لكن ما يعاب على حكام تونس الجدد غيابهم عن وسائل الإعلام الحقيقية، وخاصة في ظروف الأزمات التي تتطلب منهم التدخل لطمأنة الناس، والتواصل مع الرأي العام، للرد على المخاوف والتساؤلات التي ترافق التغييرات الدراماتيكية التي تحدث الآن في مؤسسات الدولة». ويضيف: «هذه المفارقة تعكس في حقيقة الأمر خللاً بنيوياً في طبيعة الحكم في تونس الآن؛ إذ يبدو كأنه عبارة عن جزر منفصلة عن بعضها. أما الجيش فهو يقف بعيداً عن كل ذلك، ولا أحد يعرف ما موقفه بالضبط. وهذا الوضع ليس صحياً ولا يدفع إلى التفاؤل إطلاقاً».
أما عن التدوينات اليومية للرئيس منصف المرزوقي، فيقول السليمي: «من المبكر الحكم على التجربة. لقد استفاد الرئيس أيام كان معارضاً من الإنترنت في مكافحة الاستبداد. والآن سنرى كيف يمكن أن يستفيد منها وهو في الحكم. فشبكات التواصل الاجتماعي يمكن أن تُستعمل في أكثر من طريقة. الرئيس أوباما يستعمل «تويتر» للتواصل مع الأميركيين، والبرهنة على أنه قادر على التفاعل بسرعة مع الأحداث. لكن الشبكات يستخدمها أيضاً المستبدون؛ فرئيس الوزراء الروسي بوتين يستخدم مدونته للتضليل والدعاية في مواجهة الاحتجاجات على تزوير الانتخابات وعلى استشراء الفساد في بلاده. وبالعودة إلى تدوينات الرئيس المروزقي، نلاحظ أنه يتحدث عن نفسه أكثر مما يتحدث عن انشغالات الناس الذين انتخبوه». أما ريم السعيدي، فتقول ساخرة: «المرزوقي المسكين رئيس بلا صلاحيات. وبالتالي من الطبيعي أن يجد في فايسبوك وسيلة يشغل بها أوقات فراغه، ويثبت من خلالها وجوده لإيهام الناس بأنه حاضر ومشارك في الحكم»!



حرب الدعاية الإلكترونية

يثير تركيز حُكام تونس الجدد على الإعلام الإلكتروني تساؤلات كثيرة. البعض يرى أنه وسيلة للالتفاف على «العدائية» التي تتعامل بها وسائل الإعلام التونسية مع «حكومة النهضة»، بما في ذلك الإعلام الرسمي. بينما يرى آخرون أن القصد من اللجوء إلى الشبكات الاجتماعية هو التهرب من مواجهة أسئلة الصحافيين المحرجة.
يقول منصف السليمي: «الحُكام الجدد، وزعماء «النهضة» تحديداً، وبينهم رئيس الحكومة حمادي الجبالي، يستخدمون فايسبوك، لأنهم يجدون صعوبة في التواصل عبر وسائل الإعلام التقليدية. وذلك إما بسبب ضعف حضورهم أو بفعل الضغوط والانتقادات التي يواجهونها من قبل الإعلاميين». أما عن الآلية الدعائية الضخمة التي أقامتها النهضة على فايسبوك، فيقول السليمي: «زعماء النهضة جنّدوا 1500 موظف مهمتهم إدارة مئات الصفحات على فايسبوك لتسويق دعايتهم ونشر أفكارهم ومهاجهة خصومهم». وتؤكد السعيدي ذلك قائلة: «شبكات التواصل الاجتماعي سلاح دعائي فتاك، والنهضة فطنت لذلك منذ بداية الثورة. وليست مصادفة أن مقر النهضة حالياً هو المبنى الوحيد في تونس المزوّد بروابط الإنترنت البالغة السرعة، التي تشتغل بالألياف البصرية».