منذ تنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك في 11 شباط 2011، ظهرت كلمة «فلول» للتدليل على كل بقايا كل من ينتمي للنظام المخلوع والمستفيدين منه. «فلول» الكلمة المعجمية، التي تعني بحسب الصحاح في اللغة «جاء فَلُّ القوم، أي منهزموهم، يستوي فيه الواحد والجمع. يقال: رجلٌ فَلٌّ، وقومٌ فَلٌّ، وربَّما قالوا: فَلولٌ وفِلالٌ». ما يدفع إلى التساؤل حول كيفية ظهور هذه الكلمة في الواقع السياسي الثوري المصري في الوقت الذي يتحرك فيه المعجم السياسي بالشارع داخل إطار بعد حداثي غاب عنه حضور الفصحى، إلا في الهتاف الأشهر «الشعب يريد إسقاط النظام» الآتي من تونس. ربما يبدو تساؤل منبع اللفظة غريباً، لولا وجود جماعة ذات صرامة لغوية في التعبير السياسي والدعوي كالإخوان المسلمين يجعل التساؤل وجيهاً.
وقد تمايزت جماعة الإخوان المسلمين عن القوى الثورية بسرعة تحالفها مع المجلس العسكري. وبدأت باستخدام الشريعة للسيطرة الأيديولوجية على مجريات الفعل السياسي، ومعه اتسع تعريف الفلول وكثر استخدامه، ما أوصل الإخوان في انتخابات مجلس الشعب ومعهم السلفيون، رغم عنف أحداث محمد محمود وإحراجها المجلس العسكري إلى الحصول على أغلبية ساحقة في مجلس الشعب. امتد التعريف ليخرج من إطار المحسوبين بشكل مباشر على النظام، والمستفيدين الكبار منه، ليشمل كل من كان على علاقة ولو طارئة مع أي فرد من أفراد النظام، أو ممن عملوا في مؤسسات الدولة، أو اكتشفت لهم صور وفيديوهات مع أحد رموز البطش المباركي. استطاع الإخوان الاستفادة من اتساع التعريف وغموضه في حرق الكثير من الوجوه التي حاربت الإخوان سياسياً لأغراض مختلفة. تحولت الثورة في عرف الإخوان إلى «شريعة» تقصي كل من يخالها بعدوى «فلوليته».
غموض التعريف وعدم محدوديته ظهرا جلياً في الفترات التي اختصم فيها الحليفان، الإخوان والعسكر. مع صعود المصطلح الجديد «إسلاموفوبيا»، رمت التيارات الثورية بعضها البعض «باتهامات» بقدر الانحياز لطرفي الصراع، وبقيت فئة (الأكبر حقيقة) من التيارات الثورية ترفض الإثنين معاً، وهي من قاطعت انتخابات مجلس الشعب وانتخابات الشورى، لرفض الأساس الفاسد الذي بنيت عليه العملية السياسية وقتها.
ومع بداية الاستعداد لانتخابات الرئاسة، ومع درامية حضور مرشح الإخوان محمد مرسي، بعد عدم صلاحية ترشح الرجل الأقوى بالإخوان خيرت الشاطر، وبعد نكوص عن وعد إخواني بعدم الترشح في الانتخابات الرئاسية، ظهرت كلمة «الفلول» ثانية في مفردات الحياة اليومية، لتشمل المواطنين غير المسيسين الباحثين عن استقرار الأوضاع أمنياً واقتصادياً، وارتأوا في وجوده من عهد مبارك الملاذ لمثل هذه المطالب. المواطنون الذين أطلق عليهم اسم «حزب الكنبة»، صاروا من الفلول لترشيحهم «أحمد شفيق» آخر رئيس وزراء في عهد مبارك.
المصطلح الذي صار ورقة رابحة في يد الإخوان، انساقت وراءه العديد من القوى الثورية في مرحلة الإعادة بالانتخابات الرئاسية، للتفضيل بين شفيق ومرسي. صار مرسي مرشحاً محسوباً على الثورة مع تعالي الأقاويل التي تؤكد أن شفيق مرشح المجلس العسكري وبقايا النظام التي تسعى لاسترداد ما ضاع منها على مدار ونصف. أصرت هذه القوى على تأييد مرسي في مواجهة أحمد شفيق، ممن أطلق عليهم «عاصري الليمون» مع ما للمصطلح من دلالة على «الاضطرار» وترشيح من ليس ثورياً لكن أقرب إلى الثورة في مواجهة «الفلول»، بدعوى أن «خلافنا مع شفيق جنائي أما خلافنا مع الإخوان فسياسي».
تصاعدت حدة المعارضة ضد مرسي بعد كشف حساب المئة يوم التي وعد بمجموعة من الإنجازات لم تتحقق، إلى أن وصلت إلى قمة حدتها، بعد ستة أشهر وفي نهايات تشرين الثاني وبدايات شهر كانون الأول، وأثناء الذكرى الأولى لمحمد محمود، بعد الإعلان الدستوري الذي أطلقه محمد مرسي بصلاحيات رئاسية مطلقة، ما رأته المعارضة السياسية والقوى الثورية التفافا على الشرعية والديموقراطية والثورة. تكونت جبهة الإنقاذ على عجل من رموز سياسية أبرزها محمد البرادعي وحمدين صباحي وعمرو موسى، بالإضافة إلى زحف الجماهير إلى قصر الاتحادية. صارت انتفاضة شعبية مليونية ضد الإخوان وهجوم على مقارهم ورفعت شعارات «يسقط حكم المرشد» و«ارحل يا مرسي». وبعد الخامس من تشرين الأول والهجوم المفاجئ للإخوان على معتصمي الاتحادية، زادت حدّة الانتفاضة ضدهم.
ظهرت في المليونيات الزاحفة للاتحادية وجوه جديدة على الشارع، اشتركت مع القوى الثورية في رفض الإخوان، بعضهم هتف للجيش عند رؤيته، والبعض الآخر حمل الشرطة على أكتافه بعد حيادها تجاه الأحداث هذه المرة وعدم تورطها في الاشتباك مع الجماهير. وهو ما أربك القوى الثورية بما استقر في وعيهم عن مفهوم الفلول، بالإضافة إلى وجود وجوه كعمرو موسى على رأس جبهة الإنقاذ، ما أبعد عن الجبهة امتياز «النقاء الثوري» لتلوثها بوجوه على شاكلة «موسى». ومع هتاف الجماهير في أحداث الاتحادية الأولى للجيش، عاد التساؤل مرة ثانية، هل نتخلص من الفاشية الدينية لنعود للفاشية العسكرية مرة ثانية؟
استسلم الثوار تماماً للاتهامات الإخوانية لجبهة الإنقاذ والتظاهرات أمام الاتحادية بفلوليتها، بسبب الهتاف للجيش من جماعات جديدة تماماً على الفعل الثوري، وكل مطالبها له علاقة بالإجراءات اللوجستية المرتبطة بالاقتصاد والأمان الاجتماعي.
ظهرت حملة «تمرد» قبل فترة قصيرة من مرور عام كامل على حكم مرسي والإخوان، مطالبة برحيله في 30 من يونيو. ومع تزايد الاهتمام بالحملة وعدد الموقعين في أسبوعه الأول «وصل إلى 5 ملايين توقيع»، ظهرت بقوة اتهامات الإخوان بالفلولية وبدأت القيادات الإخوانية الحديث عن مؤامرة من النظام السابق وقوى خارجية لإطاحة الشرعية، مثل ما قاله محمد البلتاجي في تصريحات صحافية عن مؤامرة لجنة الانتخابات مع شفيق وفلول النظام والبلطجية، لا يزال الإخوان يتعاملون مع المصطلح كمكتسب خاص ولا تزال بعض قوى المعارضة تتعامل معه بذهنية الثمانية عشر يوماً، رغم سيولة المجال العام السياسي وتغير أبجديات القوة.
ويأتي يوم 30 يونيو هائلاً وملحمياً؛ 33 مليوناً بحسب التقديرات لعدد الخارجين الرافضين لحكم الإخوان. انهالت اتهامات الإخوان المذعورة بقوة الفلول وهو ما يعزّون به أنفسهم، خصوصاً بعد بيان الجيش المبهم ومهلة 48 ساعة التي تنتهي اليوم، وفرحة الناس في الشوراع ببيان الجيش. غضب بعض القوى الثورية من الفرحة الشعبية بدعوى خيانة الثورة، ووجود الفلول دون تحرك لطردهم من المشهد.
لا يمكن تغييب الجيش من المعادلة السياسية المصرية، وثمة اختلاف بين التحرك الثوري والتكتيك السياسي، خصوصاً أن موازين القوى بالفعل تتغير بين يوم وليلة. ومع التحرك الشعبي الهائل، لا بد من أن ينتقل الفعل من خانة الثوري إلى التحرك السياسي، والاستفادة من خبرة العامين ونصف العام، مع الوعي الكامل بتغير موازين القوى. المكسب الأساسي في مظاهرات 30 يونيو هو اكتساب أرض جديدة وقوة كبيرة لمعركة السلطة. المثالية الثورية والنقاء الثوري لا تمثل قوة فاعلة في الساحة السياسية الآن. والخوف من الفلول «مع التباس المصطلح وعدم قطعيته» صار تاريخيا، لأن قوتهم على الأرض غابت تماما.