حلب | تميّزت مدينة حلب بخاصية رفض سكانها النزوح نحو مخيّمات اللجوء التركية، الوضع المادي المريح لم يكن السبب، بل التكافل الاجتماعي المميّز فيها.أكثر من سنة مرّت على التمرّد المسلّح في ريف حلب الشمالي، الذي لم يتصاعد إلا بعد اكتمال تجهيز الحكومة التركية مخيّم «كيليس»، لتشهد الأيام اللاحقة تمرداً بقيادة متسللين من الحدود التركية إلى أعزاز المقابلة لكيليس، ما أدى إلى دخول الجيش إليها وحصول موجة نزوح، وإن كانت الغالبية قد قصدت الريف المجاور ومدينة حلب التي لم تكن قد دخلتها الجماعات المسلحة آنذاك.
تضخّم عدد سكان المدينة أثناء معارك الريف ومثّل بعض النازحين نواة استطاعت توفير غطاء لانتقال المعارك إلى المدينة، التي شهدت نزوحاً معاكساً باتجاه الريف الآمن والأحياء التي ينتشر فيها الجيش السوري، أو باتجاه الساحل والخارج. باختصار، إلى أيّ مكان باستثناء المخيّمات التركية، التي لا تبعد عن المدينة سوى 60 كيلومتراً.
الأمر لا يتعلق بالملاءة المالية لنسبة عالية من سكان المدينة، الذين قصد كثير منهم دول الجوار كسائحين، بل يتعلق أكثر بالتكافل الاجتماعي والروابط العائلية المميزة وشعور عميق بأنّ المخيمات ما هي إلا فخ أقيم للمتاجرة بالسوريين لا الوقوف معهم. بعض العائلات نزحت ضمن حلب ثلاث أو أربع مرات، ورغم ذلك لم تقصد المخيّمات في تركيا.
وتقول مصادر المعارضة إنّ عدد النازحين من حلب إلى مخيّمات تركيا يصل إلى 40 ألفاً، غالبيتهم الساحقة من الريف (من أصل 6.5 ملايين سكان المحافظة) من أصل نحو 120 ألفاً، تقول الحكومة التركية إنّهم يقيمون في مخيّمات على الحدود مع سوريا، فيما قصد الآلاف مدينة اللاذقية وجرى استيعابهم في مراكز إيواء تشرف عليها الحكومة السورية.
في الشهور الأولى لاجتياح المسلحين بعض أحياء حلب، استضاف منزل حسني زيتوني في حيّ الزهراء، الثري، ست عائلات، العدد بلغ 31 شخصاً. في الشهور الأولى لم تختلف العادات الغذائية، قدر «المحاشي» أصبح قدوراً، التسوّق لم يعد من «بقالية» الحيّ بل من سوق الهال الجديد ومحال الجملة، سوى أن الشكوى كانت فقط من الازدحام على دورتي المياه في الشقة الفخمة المؤلفة من 8 غرف.
منزل أم أحمد ناصيف، في حيّ محطة بغداد، يغصّ بأحفادها. تقيم وعائلة ابنها الأكبر في البيت، وانضمت إليهم عائلتا ابنها الثاني وابنتها، فيما نزحت عائلة أخرى إلى الساحل. الجميع فقدوا منازلهم بعد تسلّل المسلحين إلى أحياء حلب وتحويلها إلى ساحة قتال. تتحلق العائلات حول «طاولات الغداء المتأخر، مجدرة الرز، مجدرة البرغل مع البصل المحروق وسلطة الملفوف».
رغم بساطة الطعام فإن كلفته لا تقل عن ألف وخمسمئة ليرة. أم أحمد التي تعيش في حلب منذ أكثر من خمسين عاماً قالت: «لن أترك بيتي، سأموت هنا. جميع منازل أولادي وصهري نهبت، هذا البيت هو الأخير وهو سيضمنا جميعاً، ولن نتركه والله سيفرجها علينا وعلى شعبنا».
صهرها المتحدر من إحدى بلدات إدلب والمهدّد بالقتل، قال: «نتعاون جميعنا لتدبير ما نحتاجه، أصبحنا عائلة واحدة مصروفها واحد وتكيفنا مع غلاء الأسعار ومع فقدان مدخرات من فقد عمله، وننفق على الطعام والأساسيات الملحة جداًَ».
أزمة النزوح أعادت الاعتبار للعلاقات العائلية، أعاد أهل المدينة التي تبالغ بتقديس ستة أيام للعمل للتمتع بيوم العطلة السابع اكتشاف أقاربهم، بعد عقدين من استشراء الحياة الاستهلاكية ولهاث التحصيل المادي.
لكن الأمر لا يبدو وردياً على طول الخطّ الحلبي. سما شحنة، التي نزحت من منزلها في حيّ صلاح الدين إلى منزل أهلها في حلب الجديدة، قالت «بيوت المغتربين من عائلتنا فتحناها للنازحين من الأقارب ولغيرهم، لدي منزل في كفر حمرة فتحته لنازحين من السكري، ومكتب والدي كذلك فتحناه لنازحي سيف الدولة، لكن للأسف التجربة كانت سلبية، تعرضنا لأكثر من سرقة جعلتنا نندم».
وتروي ميس عمر، من حي الحمدانية، أنّه «منذ الصيف الماضي لم يقل العدد في منزلنا المكوّن من ثلاث غرف وصالة عن 20 شخصاً، أبناء وبنات خالاتي وأخوالي حلّوا عندنا بعد تهجيرهم من أحياء صلاح الدين وسيف الدولة». وأوضحت «في البداية لم نشعر بأي ضغط، لكن طول المدة أصابنا بالأرق، في النهاية حاولنا استئجار منزل للفقراء من العائلة، الوقت الطويل ينعكس سلباً على العلاقات الأسرية، هذه حقيقة يجب أن نعترف بها».
يفتخر أهل حلب بأنّ المخيّمات تكاد تخلو منهم. «التكافل الاجتماعي هو خطّ أحمر للعائلات الحلبية»، كما قال الحاج محمد فتلون، منتقداً بعض العائلات التي سكنت حلب ولها أصول في الريف و«فضلت ذلّ المخيّمات على العودة إلى قراهم أو السكن لدى أقارب لهم في الأحياء الآمنة، التي ينتشر فيها الجيش السوري».
سمير عساني، أحد المواطنين، قال «هم رفعوا شعار الموت ولا المذلة، ونحن الذين طبقناه. هم ذهبوا إلى المخيّمات ليتمتعوا بالذل، ونحن لم نغادر وطننا ونتوقع الموت في أي لحظة بقذيفة عشوائية يطلقونها هم، أو سيارة مفخخة يقودها انتحاري».
في حين، تساءل محمد التنجي «ما من عائلة سورية إلا لها عشرات الأقارب في كل مكان في سوريا، فلمَ يختار شخص ألا يقيم مع شقيقه، أو أي قريب له أو لزوجته ويفضل مخيّماً في البرية، لكي يتفضل الأجنبي عليه، بالأخص أنّ المشاكل في حلب بدأت بعد سنة من مشاكل جسر الشغور واتضاح أنّ المخيمات مؤامرة على الشعب السوري؟».
فراس عتقي، من جهته، قال «نزحت أربع مرات منذ فقدت منزلي في طريق الباب، وها قد عدت إليه في نهاية المطاف... اللي بيطلع من داره بيقل مقداره، وسوريا دارنا».