تونس | لم يخفِ عدد من أساتذة القانون الدستوري خشيتهم من أن يكرس الدستور التونسي الجديد، الذي يناقشه المجلس التأسيسي، في بعض فصوله الاستبداد الديني والدولة الدينية، عوضاً عن الدولة المدنية التي كان التونسيون يطمحون إلى تطويرها عندما طالبوا في احتجاجات شعبية خلال شهري كانون الثاني وشباط ٢٠١١ بحل البرلمان وتنظيم انتخابات لمجلس تأسيسي. وهو ما تم فعلاً في انتخابات ٢٣ تشرين الأول ٢٠١١ التي فاز بها الإسلاميون بأكبر عدد من المقاعد. أساتذة القانون الدستوري ليسوا هم فقط من أبدوا تحفظاتهم، بل عدد كبير من الحقوقيين، بينهم محامون وقضاة ونقابيون. رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، العميد عبد الستار بن موسى، عبّر عن عدم رضاه عن المسودة الثانية للدستور التي بدأت مناقشتها الأسبوع الماضي. كذلك رأى الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، حسين العباسي، أن مسودة الدستور لا ترتقي إلى طموحات الشعب التونسي. كما اتهم نواب في المجلس التأسيسي مقرر الدستور، الحبيب خذر، المنتمي الى حركة النهضة، بالتلاعب في صياغة ما اتفقت عليه اللجان في بعض الفصول.
والإشكالية الأساسية، التي يطرحها الخبراء، هي في الصياغة الفضفاضة للدستور التي تترك الباب مفتوحاً للتأويل، ولا سيما في ما يتعلق ببعض الفصول مثل أن الإسلام دين الدولة، وهو ما يعني مسّاً بحقوق الأقليات من غير المسلمين وتأسيساً للدولة الدينية.
ومن بين ما يعاب على المسودة الثانية للدستور عدم وضوح الفصل بين مؤسسات الدولة، إذ ينص الفصل ٨٦ على أن رئيس الحكومة هو من يرأس مجلس الوزراء، فيما ينص الفصل ٧٧ على أن رئيس الدولة يرأس مجلس الوزراء في حال تعلق الأمر بمسائل من اختصاصه. ورأى أساتذة القانون في ذلك تداخلاً خطيراً قد يؤدي الى حالة من الفوضى على رأس الدولة.
وقد تحفّظت بعض الجمعيات على الفصل ٩٥ الذي ينص على أنه يمكن إنشاء هياكل أخرى مسلحة خارج الجيش والأمن تكون مضبوطة بقانون. وهو ما اعتبر مقدمة لتأسيس ثقافة «الميليشيات». إذ يرى أساتذة القانون أنه لا يوجد أي مبرر لوجود جهات أخرى مرخص لها بحمل السلاح خارج مؤسستي الجيش والأمن.
كذلك رأى عدد من الحقوقيين أن مسودة الدستور دون المأمول، إذ لا تنص على استقلالية الأمن والقضاء عن السلطة التنفيذية (الحكومة)، بما يضمن الديموقراطية. وأبدى عدد كبير من النواب في المجلس التأسيسي، حتى من حلفاء النهضة من حزبي المؤتمر والتكتل، اعتراضهم على الفصول التي تؤسس للاستبداد الديني في باب الحقوق والحريات خاصة. كما اعترضوا على التوطئة العامة للدستور التي لا تنص على كونية مبادئ حقوق الإنسان التي ينهل منها الدستور ولا على مكتسبات دولة الاستقلال، فضلاً عن عدم التنصيص صراحة على مدنية الدولة.
وقد شهدت جلسات مناقشة مسودة الدستور سجالاً حاداً بين النواب. إذ عاد نواب حركة النهضة الى المطالبة بالتنصيص على الشريعة كمصدر للدستور، ورفضوا إدراج القيم الكونية، واعتبر بعضهم أنها «قيم استعمارية»، بل ذهب آخرون الى المطالبة بتطبيق «الحدود»، وهو ما أثار غضب النائبة سامية عبو (من حزب المؤتمر حليف النهضة وزوجة الأمين العام للحزب)، التي رأت أن مسودة الدستور انقلاب على كل ما طالب به التونسيون من حرية. واتهمت المقرر العام للدستور بعدم الأمانة في الصياغة، وتغييبه لاقتراحات اللجان. وهو ما ردده أيضاً نواب المعارضة. لكن الحبيب خذر نفى أن يكون قد تدخل في الصياغة بخلاف ما تم الاتفاق عليه.
ومن بين الفصول التي أثارت الخلاف أيضاً، الفصل الذي يعطي الحصانة لرئيس الدولة حتى بعد نهاية مدته الرئاسية، وهو نفس الفصل الذي أضافه بن علي لدستور ١٩٥٩ الذي تم حله. كما تعفي مسودة الدستور رجال الأمن من المسؤولية على ما يرتكبونه في أثناء عملهم الميداني. ورأى رئيس جمعية القانون الدستوري، العميد السابق لكلية الحقوق والعلوم السياسية في تونس، عياض بن عاشور، أن الدستور في هذين الفصلين كتب بروح بن علي.
وكان العديد من المنظمات والأحزاب قد قدم مشاريع للدستور، منها الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية لحقوق الإنسان وعمادة المحامين والمعهد العربي لحقوق الإنسان. لكن أعضاء المجلس التأسيسي اختاروا الانطلاق من ورقة بيضاء، الى أن جاءت المسودتان الأولى والثانية دون المأمول، حسب خبراء القانون والأحزاب السياسية.
وتشترط المصادقة على الدستور الحصول على الثلثين عن كل فصل، وهو ما يستوجب الوصول الى توافق بين غالبية الأعضاء لأن حركة النهضة وحدها لا تملك الثلثين. أما حليفاها المؤتمر والتكتل فقد أكدا أنهما لن يوافقا إلا مع ما يتماشى مع الدولة المدنية وشروطها، وهو ما يعني الاختلاف مع النهضة. وقد بدأت هذه الخلافات تظهر في الجلسات التي تتولى القناة الثانية للتلفزيون الوطني نقلها مباشرة على الهواء.
وإذا لم يتم التوافق على الدستور أو الحصول على الغالبية في التصويت، كما هو متوقع إلى حد الآن، فسيتم الالتجاء إلى الاستفتاء. وهو ما سيطرح إشكاليات أخرى تقنية وسياسية ويطيل أكثر المرحلة الانتقالية.
يأتي ذلك فيما الأداء العام للمجلس التأسيسي، الذي كان يفترض أن ينهي أشغاله خلال سنة فقط، يعدّ مخيباً لآمال التونسيين، إذ إن الحضور في جلسات نقاش مسودة الدستور لا يزال ضعيفاً. ولم يتجاوز في بعض الجلسات ٤٠ في المئة.