تونس | كان النظام الحاكم في تونس، عشيّة 17 كانون الأول 2010، مترهلاً وفئوياً وتابعاً وتسلّطياً. مترهّلا لأنه يجرّ تجربة 50 سنة من «دولة الاستقلال» سمتها التقهقر المطرد، حيث كلما فشلت سياساته ازدادت شراسته وضاقت قاعدته الاجتماعية، وهو بذلك فئوي يكاد يصبح عائلياً (وقد صار فعلاً مع عائلات بعينها خاصة في العقدين الماضيين)، يهيمن على البلاد بحزب تحوّل من «قيادة» الحركة الوطنيّة إلى «تجمّع» للمستفيدين والكتبة والوشاة والفاسدين والمتسلّقين والعملاء من أجل تكريس التبعية لـ«متطلبات الإصلاح»، من لبرلة منفلتة وخصخصة وتدين. ويغدو «الانفتاح» رديفاً لتخلّي الدّولة عن وظائفها الاجتماعيّة وتطبيق سياسات مسقطة تصير بسببها البلاد مخبراً للتجارب.

ولم يكن ذلك ممكناً إلا بالاستبداد والقمع والبطش، واستلحاق المنظمات وتدجين المعارضة وسجن المخالفين وإلهاء الناس بالتضليل ومقايضة حرّية الشعب بأمنه، وإبراز مخالب الدولة ضدّ المناضلين الجذريّين، فيسمّيهم إعلامه ونخبه وعسسه بـ«الخونة أعداء الوطن».
عشنا، طيلة السنوات الأربع الماضية من تاريخ المسار الثوري، في قلب الانحراف عن إدانة الصندوق الأسود للنظام: إنه «منوال التنمية» (شكل توزيع الثروة والسلطة بين الجهات والفئات الاجتماعية)، التجسيد المثالي لطبيعة النظام المترهّل والفئوي والتابع والمستبدّ، والمكرّس للتفاوت والتمييز الطبقي والجهوي، لأنّه يعكس علاقة التبعيّة للمركز في الشمال الاستعماري، تلك العلاقة التي ثبّتتها فرنسا طيلة الفترة الاستعمارية. علاقة النموّ اللامتكافئ بين جهات البلاد القائمة على تراث مديد من التهميش والازدراء والاستغلال. إنّها علاقة «المخزن» الحسيني ببلاد «السيبة»، أحد أسرار تخلّفنا التاريخي والحضاري. تحوّلنا من إدانة «منوال التنمية» إلى نزاعات ثقافوية وهوياتية أجّجتها نخب فرونكوفيليّة معطوبة وأذكت نيرانها مجموعات سلفيّة وأصوليّة نصوصيّة ودغمائيّة قابلة للاختراق والاشتعال السريع.
في الأثناء، و«الترويكا» ترتكب أخطاءً شنيعة بحق الثّورة، وشباب الثورة تتوزّع أفئدته بين الأحزاب والجمعيّات يصارع بعضه بعضاً دفاعاً عن الزعيم أو الشيخ الجليل أو الرفيق القائد، والإرهاب يضرب أبناء العائلات السياسيّة الجذريّة (الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي) والكادحين البسطاء من جنود وأعوان وحرس وأمن، بدأ النظام يبتلع الجميع. ابتلع أحزاب «الترويكا»، وعلى رأسها «حركة النهضة» الإسلاميّة التي فضّلت مراقصته بدل حقنه بجرعة السمّ. وابتلع جزءاً من اليسار، أقرب القوى السياسيّة إلى نبض الثورة، ممثّلاً في «الجبهة الشعبيّة» أساساً. أما البقيّة الباقية، أي شتات «القوى الديموقراطيّة»، فمتّهمون لأنّ بعضهم ينام أصلاً في أحضانه. وحظي النظام بالوقت الكافي حتى يُقنع بأدواته المرمّمة جزءاً مهمّاً من المجتمع، متشكّلا في كتلة من «جمهور الناخبين»، بأنّ الخصم شيء آخر عداه هو. شيء آخر من قبيل «الإرهاب الإسلامي» أو «الفوضى»، وأنّ واجهته السياسيّة المرمّمة، وعنوانها «حركة نداء تونس»، هي القوّة الأقدر على حماية «نمط المجتمع» و«استقراره».
واليوم، في ذروة التضليل وتشويه القضايا وحرف الرهانات، يجب قول الحقيقة ناصعة: إنّ هذا النظام الذي تلقّى صفعة قويّة من حشود مسار «17 ديسمبر» قدّم تنازلات مذلّة، ولكنّها ليست استراتيجيّة. هي تنازلات تكتيكيّة وظرفيّة مرتبطة بفقدانه بعض أذرع هيمنته السياسيّة والإعلاميّة والأمنيّة. فقد فكّكت الثورة «حزب التجمّع» وصعقت إعلامه العامّ والخاصّ وحلّت جهاز أمنه السياسي، ولكنّها لم تدخل الدولة. وبرغم الانتصارات الاستعراضيّة للثورة والانتشاء بتوسّع مداها إلى مدارها العربي، كانت تعتمل وراء الأكمة شروط استعادة النظام لتوازنه وإعادة تحريكه أدوات الدعاية والتضليل، بعد أن امتصّ المدّ الثوري بالحيل القانونيّة والمفاوضات مع البيروقراطيّات النقابيّة والترتيبات مع الأحزاب الصاعدة. وأصبح مسار «إنقاذ النظام» يجري تحت مقولة «التوافق»، توافق تكثّف بمجمله في جولات «الحوار الوطني» التي دارت منذ أواخر سنة 2013 إلى حدود الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعيّة الأخيرة.
إنّها انتخابات من جنس «المرحلة الانتقاليّة» التي أنجبتها مرحلة الوفاق المغشوش والأحزاب البراغماتيّة وشبكات التأثير وصناعة الرأي العام، وليست انتخابات القطع مع القديم. فهي تتويج لمسار انطلق بشروط النظام ورعته لوبيات مرتبطة بالمتروبول الغربي ومحاور إقليميّة متناحرة (قطر ــ تركيا مقابل الإمارات ــ السعوديّة) يكمن رهانها السياسي الأساسي في تشريع عودة المنظومة بالصناديق والانقلاب على مطالب الحركة الثوريّة وتطلّعاتها. واهمٌ كلّ من يتوقّع أنّ صعود الرئيس الحالي محمّد المنصف المرزوقي أو المرشّح الباجي قائد السبسي إلى الرئاسة سيمثّل، في الحالتين، استكمالاً لـ«مسار انتقالي» منتهاه التأسيس لنظام جديد يكرّس قيم الثورة ويبني شروط تحقيق أهدافها في الواقع. ذلك أنّ إسقاط النّظام، في منظورنا، لا يعني دمقرطة شكل ممارسة السلطة فحسب، بل هو بالأساس تغيير الشروط المادّية والتاريخيّة المنتجة لهذا النّظام. لكن، برغم الوعي بمحدوديّة تأثير هذه الانتخابات ومدى فوقيّتها وتعاليها عن مشاغل الشعب الحقيقيّة، تظلّ محطّة مؤثّرة في مجريات الصراع ضدّ قوى الثورة المضادة في تونس وخارجها، التي تراها استفتاءً على الثورة نفسها وتسعى إلى تسليم مجمل مقاليد السلطة (التنفيذيّة والتشريعيّة) إلى الواجهة السياسيّة الجديدة للنظام المتعافى (حركة نداء تونس ورئيسها قائد السبسي) لتنقسم القوى السياسيّة الأخرى بين موافق أو منافق أو متوافق. وعليه، فإنّنا نعتبر فوز السبسي تكريساً للانقلاب الكامل على المسار الثوري، وفوز المرزوقي يحدّ جزئياً من الهيمنة وتغوّل المنظومة.
* ناشط شبابي