بغضبٍ يرجف صوتها، تبدأ كريستينا يوسف بالحديث. لا تحاول إخفاء ترددها أمام الكاميرا، انه ليس وقت التردد أبداً، هي تقول الفكرة بشكلٍ مباشر، وصوتها يكاد يختنق؛ إنها تتحدث مع أكبر سلطة فلسطينية (لربما): سيادة الرئيس أبو مازن.
تنطق الشابة الصغيرة: "وين كنت لما تولين انقتلت؟ وين كنت لما يوسف الرموني انشنق شنق وهو بشتغل، حضرت الفيديو تبع مرته وهي بتبكي، إنت بتحضر أخبار؟ هادي إحنا مش بحال حرب، احنا قاعدين بمجزرة، هدول اللي قاعدين بيرفعوا راسنا، وانت قاعد بتدين؟ كل يوم نساء الأقصى بينكسروا وبينضروا". وتكمل بكامل غضبها والعلم الفلسطيني المعلق على الحائط خلفها: "اذا مش قادر تكمل إحنا بنكمل عنك، بنعرف ندافع منيح عن فلسطين". وتختتم: "يا زلمة إخص عليك، إخص عليك". هكذا هي حالة الناس في مدينة الرام، العاصمة الفلسطينية لنظام أبو مازن الحالي، فكيف تكون الحال في العاصمة المقدّسة؟
فجأة أصبح الشارع المقدسي أكثر من غاضب، في لحظة ما فقد الصهيوني كل سيطرة كان يتباهى بها على الشارع المقدسي. لوبا السمري الناطقة باسم الشرطة الإسرائيلية وجدت نفسها –لربما للمرة الأولى- أمام حشدٍ كبيرٍ من الغاضبين، ومن الطرفين كليهما، الشرطية-العميلة التي تنتمي لأسرةٍ عربية تتباهى بعمالتها، وجدت أن مشغّليها الصهاينة غاضبين منها أكثر من أقاربها العرب. فهي تدرك تماماً بأنه ليس لها مكانٌ بين أقرانها العرب، لذلك فإن عليها أن تثبت عمالتها أكثر وأكثر، هكذا نطقت بالكفر سريعاً: "يبدو أن "المسلحين الإرهابيين" أتيا من شرق القدس، وهما قتلا المصلين بدمٍ بارد وبواسطة البلطات". هكذا بكل بساطة، وهي العربية التي تعرف حجم معاناة المقدسيين العرب. لكنها كعادة كل العملاء والخونة، تريد تبييض صفحتها لدى "مشغليها" بكل بساطةٍ!
لا يعرف كثيرون عن حال سكان المدينة المقدّسة النذر اليسير. حتى إن وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية، لا تحكي نهائياً عن ظروف معيشتهم: إنهم ليسوا فلسطينيين يحملون جواز سفرٍ "عربياً" أو "فلسطينياً" من أي نوع، وهم ليسوا بالتأكيد حملةً للجنسية الصهيونية: أي إنهم بالتالي لا يشاركون في أية انتخابات، ولا يحملون أوراقاً رسمية تمكنهم من السفر في حال أرادوا ذلك. في هذه المتاهة "الثبوتية" يمتلك سكان المدينة الحق في الإقامة فيها، ومع هذا فإنهم لا يستطيعون "البناء" في المدينة المقدّسة، إنّهم حتى لا يستطيعون توسعة منازلهم أو ترميمها إذا ما احتاجت لذلك. ومنذ سنين دأبت وزارة الداخلية الصهيونية على استعمال سياسة "مركزية الحياة" وهي تعني أن على المقدسي أن يثبت بالدليل القاطع أنه يسكن المدينة، وحياته فيها هي الأساس، وليست في أي مكانٍ آخر، وإلا فقد حق الإقامة فيها. ويتعرض المقدسيون –وهو أمرٌ يكاد يكون شبه يومي- إلى تفتيشٍ من قبل مفتشين مختصين من تلك الوزارة يدخلون منازلهم ويحصون عليهم "اغراضهم" التي يستعملونها ويقارنوها بالأعداد المكتوبة لديهم وكأنهم رهائن او مساجين: إنها سياسة عدّ الأنفاس. هل يعرف أحدٌ عن ذلك شيئاً؟ ماذا عن السفر؟ لا يحق للمقدسي أبداً مغادرة المدينة لأكثر من شهرٍ إذا ما فكّر بالرجوع إليها. فإقامته ستصبح لاغية ومن الممكن وبشكلٍ فعلي أن يجد نفسه ممنوعاً من الدخول تحت حججٍ واهية تماماً. التوريث في المخيمات اللبنانية ممنوع؟ طبعاً وكذلك في القدس. هناك يصبح الامر "بالغ الصعوبة" إذ يحق لصاحب المنزل توريثه لأولاده الذين لا يقيمون في المدينة، لكن لا يحق لهم دخول المدينة والعيش فيها إذا لم يكونوا مقيمين فيها بالاصل.
ورغم كل ذلك يبقى أهل المدينة محافظين على انتمائهم وقواهم، ورغم كل هذا القمع فإنهم لم يحاولوا يوماً أن يقولوا نحن نريد "ترك" بيوتنا والعاصمة، والرحيل بعيداً، عضوا على جراحهم، ضغطوا على أرواحهم وأكملوا، ولم تشهد المدينة أي حراكٍ أو عملياتٍ "عنيفةٍ" ضد الصهاينة، بل بالعكس كان أهل المدينة يدركون وبشكلٍ قاطع رغبة الصهاينة بطردهم، لذلك لم يعطوهم أية فرصةٍ لتهجيرهم.
لكن دوام الحال من المحال. ارتكب الصهاينة جريمتهم المروعة بحق الطفل الشهيد محمد أبوخضير؛ أجبروا طفلاً مسكيناً على ابتلاع البنزين، وأشعلوه. كانت الجريمة أكبر بكثير من أن تستوعبها عقول المقدسيين. لقد شعروا جميعاً – كما أي فلسطيني وعربي حقيقي- بأنَّ محمد هو ابنهم جميعاً، هو كل أطفالهم، هو كل أطفال العالم في طفلٍ واحد. هنا بدأت الهبّة أول الأمر في حي "شعفاط" الحي الذي يأتي منه أبو خضير؛ لكن ذلك لم يكن كافياً.
أراد ولدا العم غسان وعدي أبوجبل أن يثبتا أن روح الانتقام لا تزال مشتعلةً بقوة بالغة. إنها والدة الشهيد أبو خضير التي رفعت رأسها يوم أخبروها بالطريقة التي استشهد بها ولدها قائلةً: "هدول مفكرين حالهم قتلوا محمد وحرقوه؟ محمد هون (مشيرة إلى قلبها) محمد بقلبي، كيف بدهم يوخدوه؟ إذا بيقدروا يجربوا". كانت هذه الكلمات بوابة غسان وعدي أبو جبل؛ كانت طريقهم إلى ذلك الكنيس، لربما حتى كانت الأغنية التي يصرخون بها وهم ينتقمون من قتلة الفتى الجميل.
اليوم لا نزال في أوّل الطريق لانتفاضة المدينة الوادعة، فمن لا يعرف عن المدينة سوى أنّ فيها المسجد الأقصى بات يعرف الآن بأن فيها كذلك عدداً كبيراً من المقاومين الأشداء الأباة الذين لا يرتضون ظلماً، ولا ينتظرون من أحدٍ أن يدافع عنهم أو أن يحميهم: ففي أوقات الشدّة يظهر أبطالٌ منسيون، لايتذكرهم أحد، يحملون شعبهم عالياً، ويحمونه.
أولئك هم حماة الثورة الأوائل، هم اول الامل، وآخره.




لا شيء وكل شيء


تعتبر القدس واحدةً من أهم المدن بالنسبة لجميع الأديان السماوية، فهي القبلة الأولى بالنسبة للمسلمين، وفيها كنيسة المهد بالنسبة للمسيحيين وأرض هيكل سليمان بالنسبة لليهود، لذلك فإن قيمتها المعنوية والنفسية تبدو أكبر بكثيرٍ من مجرد حجارةٍ وأرض فحسب. ويكفي أن نستذكر كلمات صلاح الدين الأيوبي عن المدينة حينما سئل عنها فأجاب: "إنها لا شيء؛ وكل، كل شيء!". ويكفي أن نعلم بأن وزارة الداخلية الصهيونية تطرد (أو تهجّر) ما يقارب مئتي فلسطيني منها سنوياً بهدف إحلال الوافدين الصهاينة من العالم مكانهم.