توشك الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أن تنهي مرحلة القتال المكثّف، لتنتقل إلى ما بات يعرف بـ«المرحلة الثالثة»، الأمر الذي يقرّب تلقائياً الجانب الإسرائيلي من إعلان «انتصار» وإن موهوم، ومن ثم يسهّل عملية التوصّل إلى اتفاق على التهدئة، تحت مسمّى «صفقة الرهائن»، التي أُعيد إحياء الحديث عنها من جديد، خلال الأيام القليلة الماضية. وعلى رغم أن رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، قال إنه «لا تغيير في موقف إسرائيل في ما يتعلّق باقتراح صفقة الرهائن التي أعلن عنها الرئيس (الأميركي جو) بايدن»، وشدّد على أن «إطلاق سراح الأسرى سيكون عبر خليط من الضغط السياسي والعسكري»، إلا أن في تصريحه قبولاً ضمنياً بالتسوية والاتفاق اللذين كانا مرفوضين لديه، وإن جرى تغليفهما الآن بعبارات الشدّة والاقتدار والتصميم.ويبدو أن العملية البرية في منطقة رفح تضغط على إسرائيل أكثر مما تضغط على المقاومة الفلسطينية، الأمر الذي يدفع الأولى إلى تجزئتها ما أمكن، وخاصة بعدما سيطرت على المعبر البري مع مصر، وفصلت بين الفلسطينيين والحدود المصرية. ويعني ذلك أن الاستمرار في العملية نحو وسط مدينة رفح لم يعد ذا جدوى تستأهل المتابعة، وخصوصاً في ظل وجود خطورة كبيرة على الجنود، في حين أن الإبقاء على المدينة خارج سيطرة الجيش الإسرائيلي يسمح باستخدام التهويل والتهديد بالدخول إليها عسكرياً، ويشكّل بالتالي رافعة ضغط مساندة للمفاوض الأميركي، في المفاوضات التي أُعيد إطلاق عجلتها قبل أيام.
وتأمل إسرائيل، كما الولايات المتحدة، أن يساعد الإعلان عن الانتقال إلى «المرحلة الثالثة» من الحرب، بالتوازي مع ضغوط سياسية هائلة يجري تفعيلها من قبل عرب الاعتدال على قادة حركة «حماس»، تهويلاً وإغراء، في تغيير موقف الحركة ودفعها إلى قبول هذه المرحلة، على أنها نوع من إعلان وقف الحرب، وفق ما تطالب به. لكن هذا العرض لا يعني أكثر من وقف مؤقت للقتال، الذي سينتقل من مستوى إلى آخر، وفقاً للقرار الإسرائيلي ومتطلّبات استكمال المواجهة بأدوات وخيارات عسكرية وأمنية أقلّ وطأة وكثافة؛ إذ إنه من الأساس لن يكون هناك محلّ للقتال المكثّف في مرحلة ما بعد رفح.
العملية البرية في رفح تضغط على إسرائيل أكثر ممّا تضغط على المقاومة الفلسطينية


هكذا، تأمل تل أبيب أن تتوصل إلى اتفاق تحرّر بموجبه أسراها، ويحرّرها بالتالي من التزام كان يثقل على قرارها منذ أن بدأت الحرب، على أن تكون حرّة لاحقاً في اتخاذ قرار العمليات العسكرية والأمنية المصغّرة نسبياً في كل أرجاء القطاع، وإن مع انسحابات وازنة بموجب اتفاق تبادل أسرى، لزوم منع حركة «حماس» والفصائل المقاومة من استعادة السيطرة على الأرض، في اليوم الذي يلي الحرب. وفي هذا الإطار، تشير تقديرات للجيش الإسرائيلي تدّعي أن إمكانيّة عودة «حماس» للسيطرة على القطاع، مثلما كان عليه الوضع قبل 7 أكتوبر، ستستغرق مدة طويلة، يمكن لإسرائيل أن تنشغل خلالها في تأمين جهة أو خليط جهات، دولية وعربية ومحلية، يُناط بها تسيير الشؤون المدنية والحياتية لفلسطينيّي القطاع، ومنع «حماس» من إعادة إحياء أذرعها العسكرية والأمنية وترميمها.
بالنتيجة، تعمل إسرائيل والولايات المتحدة على بلورة اتفاق، يمكن تفسيره على أنه اتفاق وقف لإطلاق النار وإنهاء الحرب من جهة الفلسطينيين، لكنه يتيح لإسرائيل استئناف القتال وإن غير المكثّف متى وجد الجيش الإسرائيلي مصلحة في ذلك، ما يمنع رفع «السيف» عن رقاب المقاومين ويدفعهم إلى الانشغال بالموقف الدفاعي الذي لا يسمح لهم بترميم القدرات.
ومن المتوقّع أن يواجه نتنياهو معارضة شديدة من أحزاب اليمين المتطرف في حكومته على خلفيّة خيار كهذا، فيما لا يُستبعد أن تعمد هذه الأحزاب إلى ما من شأنه إسقاط الحكومة نفسها، وخاصة أن الفاشيين غير معنيّين بأيّ اتفاق مع الجانب الفلسطيني، ما لم يكن اتفاق استسلام كامل، يسمح بالسيطرة الصهيونية الدائمة على القطاع، كما الاستيطان فيه وضمّه إلى الأراضي المحتلة، ليتساوى تماماً مع أراضي عام 1948.