القاهرة | كجزاء سنمار الذي قُتل بصنيعة يديه... تلقى الباعة الجوالون في وسط مدينة القاهرة صفعة مدوية من الأجهزة الأمنية على مدار الأيام الماضية لإخلائهم قسراً ونقلهم إلى مقر آخر في منطقة لا تلقى قبولهم.وقضت قوات الأمن أربعة أيام في مهمة - لم تنته بعد - لنقل الباعة الجوالين المتمركزين والمنتشرين في شوارع وسط القاهرة منذ سنوات إلى كراج الترجمان في شمال القاهرة وسط حالة من الكر والفر بينهما، أدت إلى نزول مدرعات الجيش لتأمين عملية الإخلاء والنقل دون العودة نهائياً.

ولطالما عمدت قوات الأمن إلى «مساعدة» فئات من الباعة الجوالين لتبتزهم في ما بعد وتطالبهم بالمشاركة في تفريغ ميادين الاحتجاج في وسط المدينة من ثوارها ومن متظاهريها، وكثيراً ما اعتمدت على تلك الفئات طوال السنوات الثلاث الماضية كـ«خط دفاع شعبي» لمواجهة التظاهرات المعارضة للنظام السياسي منذ تولي المجلس العسكري مقاليد الحكم في شباط/فبراير 2011 وحتى فوز وزير الدفاع السابق المشير عبد الفتاح السيسي برئاسة البلاد في حزيران/يونيو 2014.
ووفقاً لإحدى المقاربات، بدا صمت الأجهزة الأمنية عن تحويل منطقة وسط القاهرة إلى سوق مفتوح للباعة الجوالين جزءاً من اتفاق مع فئات محددة يقضي بـ«التعاون» في حالات تُفضّل فيها قوات الأمن عدم الوقوف وجهاً لوجه مع المتظاهرين والثوار مقابل تحريك أذرع متعاونة في ثوب مدني لإجهاض التظاهرات والاحتجاجات الشعبية، وخصوصاً في ظل اتساع نطاق انتشار «الباعة السرّيحة» دون ترخيص برغم اعتراضات دائمة من الأهالي. بينما حل «موسم الخريف» بين أجهزة الأمن والباعة الجوالين منذ أسابيع قليلة عندما تعهدت حكومة المهندس إبراهيم محلب عودة الأمن والانضباط إلى شوارع القاهرة بعد طول غياب، وخصوصاً بعد موجة شديدة السخونة من انتقادات إعلامية ضد ما سمته «صمت الحكومة حيال حالة انفلات وفوضى أمنية غير مبررة».
وتبادل الطرفان جملة من التهديدات طوال الأيام الماضية، حيث أهاب مدير أمن القاهرة بالباعة الجوالين التزام قرار النقل، وقال بنبرة غاضبة لا تخطئها أذن: «ستتعامل الأجهزة الأمنية مع أي نوع من أنواع الخروج عن القانون بمنتهى الحزم والحسم»، فيما قررت نقابة الباعة الجوالين التصعيد بتنظيم تظاهرات حاشدة أمام موقف الترجمان، اعتراضاً على قرار إخلائهم قسراً من وسط المدينة.
وتتمثل اعتراضات الباعة الجوالين على مقر إقامتهم الجديد في عدم جاهزية «كراج الترجمان» لاستيعابهم، وخصوصاً أن عدد الباعة الجوالين في شوارع وسط المدينة وحدها يبلغ نحو 1700 بائع، إلى جانب أنه يقع في منطقة لا تتمتع بالرواج الاستهلاكي، غير أن محافظ القاهرة جلال سعيد، قال إن «اختيار كراج الترجمان يأتي مؤقتاً إلى حين الانتهاء من التجهيزات النهائية لمشروع سوق مجمع كبير للباعة الجائلين».
وفي محاولة لحل الأزمة المتصاعدة، كلّف رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، محافظ القاهرة تخصيص خطوط مواصلات إلى كراج الترجمان لتسهيل وصول المستهلكين إلى الباعة الجوالين، وطالب الحكومة بتعيين أفراد من الشرطة لحراسة المكان الذي نقلوا إليه الباعة، في إطار اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لمساندتهم.
وبرغم المحاولات الحكومية الحثيثة لترضية الباعة الجوالين، اتهم الباحث في مجال حقوق العمل، شهير جورج، الحكومة بالفشل في حل أزمة تنامي ظاهرة الباعة الجوالين في مصر، مؤكداً أن سياسات التشغيل الفاشلة للحكومات المتعاقبة أدت إلى نفاذ الباعة الجوالين إلى الشارع وزيادة الضغط على المساحات العامة.
وطالب جورج الحكومة المصرية بإعداد تخطيط منضبط لفتح أسواق جديدة بهدف استيعاب الأعداد المتزايدة للباعة الجوالين والناتجة من ارتفاع معدل البطالة إلى نسبة 13 في المئة، أي نحو 3.5 مليون عاطل من العمل، نحو 60 في المئة منهم من الشباب، بحسب الإحصاءات الرسمية.
وانتشرت ظاهرة الباعة الجوالين في مصر بعد «ثورة يناير 2011»، وقد أدت إلى حالة سيولة وانفلات أمني أسهمت في تشجيع أفراد وجماعات على افتراش بعض الشوارع والميادين بالبضائع المختلفة.
ويعزز احتمالات تجدد المناوشات بين قوات الأمن والباعة الجوالين مستقبلاً، عدم تعديل القانون رقم 33 لسنة 1957 في شأن الباعة الجوالين الذي يغلظ غرامات مالية على مخالفات «الباعة السرّيحة»، إلى جانب عدم مراعاة قانون الإشغالات العامة للطرق، الصادر عام 1966، للواقع الاجتماعي الجديد لبلد يعاني من سيولة أمنية وارتفاع لمعدل البطالة.
وقَدّر رئيس نقابة الباعة الجوالين، أحمد حسين، أعداد «الباعة السريحة» بـ6 ملايين بائع على مستوى محافظات الجمهورية، وهي الأعداد التي تعتبرها مصادر حكومية «مبالغاً فيها»، غير أنه يدلل على صحة تقديراته بدخول أعداد إضافية بعد «ثورة يناير في 2011» بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية وتسريح العمال والموظفين من أشغالهم.
واقترح نقيب الباعة الجوالين لإنهاء الأزمة المتصاعدة بين الحكومة المصرية والباعة الموافقة على تخصيص مكان مساحته نحو 10 آلاف متر مربع في شارع الجلاء شمالي القاهرة، وهو شارع تجاري مهم بالقرب من وسط مدينة القاهرة، إلى جانب منح الباعة المسجلين في النقابة رخصة للعمل بهذا المكان الذي قال إنه «يلقى قبولاً من جميع الباعة الجوالين المتضررين من قرار نقلهم إلى كراج الترجمان».
وتظل سيناريوات أزمة الباعة الجوالين مفتوحة، ما لم تنجح الحكومة في الوصول إلى تفاهمات مرضية لهم، ولا سيما بعدما قضت الأجهزة الأمنية في مصر مع فئات «متعاونة»، عبر الابتزاز والتسلط، «شهور عسل» لإجهاض «جنين الثورة» من رحم البلاد، فيما يبدو أن أعداداً كبيرة من الباعة ستدفع اليوم أثماناً لا علاقة لها بها.