بغداد | قبل أكثر من 6 أعوام، تجاوز العراق أكبر خطر ساور السلم الأهلي في جميع مناطق البلاد، أدى إلى تغيير ديموغرافية الكثير من المناطق المتنوعة الطوائف. ظن الجميع أن العراق ابتعد عن الخطر، لكنه عاد يحدق به من جديد مع اجتياح «الدولة الإسلامية» للموصل ولعدد من المناطق الشمالية ذات الأغلبية السنية. وساعد على انتشار الخطر، انقسام القادة السنة السياسيين والعشائريين المعارضين للعملية السياسية، الأمر الذي انعكس على مجمل المجتمع العراقي بجميع تنوعه، ولا سيما في بغداد ذات الطابع المدني.
المقاهي والاجتماعات المصغرة لأهالي بغداد، كانت شاهدة على نشوب خلافات حادة بين أصدقاء وأقارب لأسباب طائفية، أثارتها أحداث الموصل حصراً. الباحثة الاجتماعية نسرين كاظم، أجرت استطلاعا فرديا داخل وسائل النقل في المناطق المغلقة من شتى الطوائف، لاكتشاف طبيعة الانقسام الاجتماعي في التكوين البغدادي.

وقالت لـ «الأخبار» إنها اكتشفت وجود غضب عارم بين المواطنين الشيعة، فيما ينتشي الشارع السني ببغداد نكاية بالحكومة المنتهية صلاحيتها التي ترأسها نوري المالكي، لا رغبة في إسقاط العملية السياسية، كما يريد بعض قادتهم السياسيين، مشيرةً إلى أن «المناطق المختلطة كالكرادة والمنصور، تتحاشى في كثير من الأحيان الخوض بحوارات ذات طابع سياسي أو اجتماعي، أو حتى توجيه النقد للحكومة الذي اعتاده ركاب تلك المناطق».

باحثة اجتماعية:
انقسام الشارع السني سببه تعدد قادته


وتكشف الباحثة الاجتماعية عن وجود انقسام داخل الشارع السني في بغداد، يتمثل بتعدد قادتهم، حيث هناك أكثر من خمس جهات تمثّل أهل السنة في الوقت الحاضر، دون أهداف واضحة، وتضيف أن «القيادات السنية ترفع شعار إسقاط العملية السياسية كحزب البعث ودولة الخلافة الاسلامية، وقسم منهم يرفع شعار الإقليم السني، ككتلة «متحدون» بزعامة أسامة النجيفي، وقسم ثالث يدعو إلى إلغاء قوانين يعتقدون أنها ظلمت أهل السنة، مثل اجتثاث البعث وقانون مكافحة الإرهاب، كما هو مراد الفصائل العشائرية التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية في الوقت الحالي، لذا فالسنة لا يميزون من هم الثوار ومن هم الارهابيون».
وتشهد طرق ووسائل النقل والمقاهي والتجمعات البسيطة في بغداد، نقاشات وحوارات ساخنة تنتهي بزعل الأصدقاء أو الأقارب. ويقول الشاعر ميثم الحربي، إنه فقد أحد أصدقائه الذي تربطه به علاقة عائلية دامت أكثر من 10 سنوات، ويضيف «صديقي من أهالي الموصل، فحاولت الاطمئنان إليه بعد أحداث مؤسفة شهدتها المدينة، لكنني فوجئت بنبرة كلامه وزجره وطلبه مني عدم الاتصال به مرة أخرى، قبل أن تعود زوجته لتعتذر عما بدر منه بسبب توتره إزاء ما يحصل». حال الشاعر لم تعد فريدة، في وقت تشهد فيه الجامعات والمدارس والدوائر الحكومية وحتى القطاع الخاص والمحال الصغيرة، اختلاطا وتنوعا طائفيا وعرقيا بين العاملين، لكن الظرف الحالي في العراق، يشهد استنهاضاً في الحس الطائفي لدى العديد من العراقيين، وبدت الخلافات الطائفية واضحة حتى في مواقع التواصل الاجتماعي.
ويؤكد الباحث الأنثروبولجي علي طاهر لـ «الأخبار» وجود انقسام اجتماعي واضح، «حيث صرنا نشهد نزاعا وخلافا كلاميا ذا طابع طائفي في جموع يفترض بها أن تكون نخبوية أكثر مما هي عادية»، مبيناً أن النظريات الأنثربولوجية تشير إلى أن «كل المجتمعات لها القابلية على تقبّل الآخر، حتى دخول الصراع السياسي، الذي يعزز الانقسامات وتقود المجتمع إلى الصراع أو الصدام».
ورأى طاهر أن «من الصعب الاعتراف ببوادر حرب أهلية أو نفيها تماماً، ولا سيما أننا لم نشهد حتى الآن تغيرا ديموغرافيا وهجرة لطائفة ما من بغداد كما حصل في سنوات العنف الطائفي (2006 – 2007)»، مضيفاً أن الحرب الأهلية يجب أن تقوم على أسس وبوادر حقيقية، وهو ما لم يُقرأ حتى اللحظة، على الرغم من أن أهل السنة يرون أن تطوع العديد من الشبان في صفوف الجيش العراقي كان بدوافع عقائدية لا وطنية.
وشهدت بغداد هجرة آلاف العوائل البغدادية على خلفية الأحداث الأمنية الأخيرة في العراق، واستعراض الميليشيات المسلحة في شوارع بغداد في الأيام الأولى لأزمة الموصل، في وقت تشهد فيه العديد من المناطق التي تعدّها القوات الأمنية مصدر التوتر في بغداد، إجراءات أمنية غير مسبوقة، صعّبت على الأهالي الدخول إلى مناطقهم وخروجهم منها.
كذلك أصدرت العديد من الوزارات والدوائر الحكومية، تعليمات جديدة للحؤول دون منح إجازات بدون رواتب لموظفيها، بعدما فرغت تلك الوزارات من الموظفين بسبب الهجرة المؤقتة والدائمة للكثير من الموظفين.
وفي هذا الإطار، تحرك الأسبوع الماضي عدد من منظمات المجتمع المدني والناشطين المدنيين، لإطلاق مبادرة للحوار المدني للسلام في العراق، وشددت على توحيد المبادرات المدنية، وعقد مؤتمرات واسعة في بغداد وأربيل والبصرة والنجف، وإنشاء مجموعة مدنية من الخبراء في الشأن السياسي العام لمتابعة الملف العراقي، وإطلاق حوار مدني مجتمعي للمراجعة الدستورية، للتأكيد على دور المجتمع المدني العراقي كشريك في صناعة القرار الوطني، ورفض المظاهر المسلحة، واستحداث هيئة وطنية مدنية للتعايش السلمي وحل النزاعات.