ظهر الجمعة، مضى حسين قراقع على نهج رفيق دربه باسل الأعرج. وجد جوابه الأخير بعد 31 عاماً، هي سنيّ عمره التي قضاها وهو يطرح أسئلة كان يحسن دائماً نسج المتناقضات لاجتراح الإجابة عنها. منفّذ عملية «راموت» كان قد بحث أيضاً، طوال أشهر طويلة، عن هدفه الذي سيقدّم رأسه في سبيله وهو «ندّ لعدوه»، مثلما عنون صفحته في «فايسبوك»: «لا تمُت قبل أن تكون ندّاً». يقول أحد أصدقائه: «كان حسين ينطلق في سيارته، ويفتح بثاً مباشراً عبر هاتفه المحمول. لم نكن نعي طوال المدة التي كرّر فيها هذا السلوك، أنه كان يبحث عن هدف دسم. ربّما كان يفكر حينها أن يوثق قِتلته وقتلاه بالبث الحي». في مستوطنة «راموت» التي تضجّ بالمستوطنين المتدينين «الحريديم» الأكثر حقداً وتزمتاً، انتظر حتى امتلأت محطة انتظار الباصات بالمستوطنين، وداهمهم بسيارته، موقعاً ثلاثة قتلى وخمس إصابات. في رحلة حياته القصيرة، جمّع «نسر القدس» كما سمّاه رواد مواقع التواصل الاجتماعي، أشتات الوطن المجزّأ. فهو ينحدر من عائلة هُجرت من قرية «علار» في عام 1948، إلى مخيم الدهيشة جنوب شرقي مدينة بيت لحم. ومن المخيم، انتقل والده إلى حي الطور في مدينة القدس المحتلة، حيث استقرّ ووالدته المقدسية. هناك أيضاً، تزوج حسين، وأنجب أبناءه الثلاثة، وسكن وزوجته آية في بلدة العيساوية. خلْف شخصية الشاب المقبل على الحياة، المحبّ لأولاده وعائلته، يختبئ حسين الذي يحمل هموم الوطن، وينتمي إلى المقاومة نهجاً ومحوراً. يقول صديقه المقرّب، عاصم - اسم مستعار -: «أبو خالد شاب لم يكن يَقبل على نفسه أن يتفاعل مع الهموم الوطنية في حدود الفعل الدنيا، هو مخلص وجذري في انتمائه الوطني، يتقدم الصفوف في كل فعاليات الدفاع عن المسجد الأقصى، وقد أصيب ذات مرة إصابة حرجة، وهو في طريقه للتبرع بالدم لأحد المصابين، كما اعتُقل ثلاث سنوات على خلفية فعله الثوري، هو منتمٍ إلى روح المقاومة، فكرة المقاومة، التي هي بالنسبة إليه نهج حياة، مثقف على طريقة باسل الأعرج، واعٍ سياسياً، يدرك في المفترقات المصيرية من عمر الأمة أين يصطف، شغوف بالثائرين، من محمد الثائر، إلى الحسين وتشي جيفارا، إلى المقاومين في غزة ولبنان واليمن وسوريا وإيران، هو ابن هذا الهمّ، ابن الموقف الجذري الذي لا يحابي فيه أحداً».
كان يتقدم الصفوف في كل فعاليات الدفاع عن المسجد الأقصى، وقد أصيب ذات مرة إصابة حرجة


أمّا عن صفاته، فيتابع عاصم: «أن تعيش بنفسية الشهيد، كان حسين مقتصداً في التفكير في الدنيا، ورغم ذلك، محباً لها، رومانسياً ثورياً حالماً، غده هو حاضره، ونهايته التي ضجّت بها الدنيا، هي غاية أمنياته، أن يُقتل نداً أو أن يحسن الثأر كما كان يقول باسل الأعرج: (ليس علينا أن نثأر، إنما أن نحسن الثأر) ». في صفحته عبر «فايسبوك» التي سارع الاحتلال إلى إغلاقها بعد ساعتين من استشهاده، يَحضر تفاعله الصادق مع كل القضايا الوطنية، مديحه الوفير لفعل الشهداء الأبطال، وأيضاً، صورة تجمعه مع صديقه المقرّب نزار بنات، الذي نعت عائلته «بطل القدس»، واصفةً إيّاه بأنه كان سنداً لها منذ استشهاد «أبو كفاح»، إذ حضر الفعاليات كافة التي طالبت بالعدالة لدمه، وكان دائم الذكر لأفكاره. في «فايسبوك» كذلك، يَظهر ابن «الجبهة الشعبية»، تلميذ جورج حبش ووديع حداد المخلص، متصالحاً مع نفسه، قافزاً بإيمان الثائر، المتديّن الفطري والثوري، عن التقسيم المذهبي، واسع الفكر والفهم لمسيرة الأحرار.
قبل أشهر من شهادته، كان قد نشر صورة رمزية لخيل الإمام الحسين، وقد أدمتْه السهام والنصال، كتب في أعلاها: «وقف الزمان على ضريحك سائلاً... ما السرّ فيك؟». سيقضي ابن الدهيشة، والطور، والقدس، وستحكي كلّ فلسطين عن صنيعه البطولي طويلاً. ستأتي أجيال تَذكر فعله المشابه لكنيته، ولسان الحال يسأل: يا أبا خالد... ما السر فيك؟