أثار اعتزال زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، السياسة، كما في كلّ مرّة، أسئلةً كثيرة عن مآل الخطوة، وما إذا كانت، كما في كلّ مرّة أيضاً، «مزحةً» ينتهي مفعولها متى استدعى الأمر ذلك، أو أنها تكتيك أُريدَت مِن خلْفه استثارة مشاعر المحازبين لترسيخ زعامةٍ تبدو، راهناً، محطّ اهتمام الغرب وبعض معلّقيه مِن الذين يرَون في الصدر «خلاصاً» من “الإرباك” الذي تُسبّبه - بحسبهم - السياسات الإيرانية في العراق، و«منقذاً» لا ينام على ضيْم، حتى وإن اضطرّ إلى التضحية بنفسه خدمةً للمصلحة الأعمّ، ليعود بعدها حاملاً لواء «النصر» في بلدٍ لم يَعرف الثبات يوماً. على هذا، ثمّة مَن يعتقد، وجلُّهم من النُخب الغربية، أن «اكتساح» الصدريين للبرلمان في انتخابات تشرين الأوّل 2021، ورفْض الصدر السيْر بصيغة حكومات ما بعد الغزو القائمة على «تقاسم السلطة» و«التوافق»، أعطى «أملاً في كسْر حالة الجمود» السياسية والاقتصادية، إلى أن بدّد الفشل في تشكيل حكومة على مقاس الصدر وحلفائه، ولاحقاً استقالة النواب الصدريين الـ 73 من البرلمان ودعوة زعامتهم إلى حلّ البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة، فضلاً عن اللجوء إلى الشارع غير مرّة، هذه «الآمال».«الصدر أفضل أمل للعراق والولايات المتحدة» على السواء، وفق ما يورده بعض المحلّلين، من الذين «يؤمنون» بقدرة الرجُل على «إنقاذ العراق من الميليشيات الشيعية الجامحة، أو - على الأقلّ - محاذاته مع المعسكر المناهض لإيران»، على ما يقول شايان طالباني، في مجلة «فورين بوليسي». ويثير عباس كاظم، مدير «مبادرة العراق» في «المجلس الأطلسي»، مسألة اعتزال الصدر، متسائلاً ما إذا كان «الانسحاب من السياسة عموماً، أم من المؤسّسات السياسية البائدة». ويستشهد، كمثالٍ على ما تقدَّم، بالمرجع الديني، آية الله علي السيستاني، الذي، كما يذكّر، «لا يتدخّل في السياسة. ومع ذلك، يُعدّ أحد أكثر الأشخاص نفوذاً في العراق، إنْ لم يكن الأكثر نفوذاً». ويعتقد كاظم أن الصدر سيستفيد، في نهاية المطاف، من «الفراغ الديني» الذي سيخلّفه رحيل السيستاني، لتعزيز نفوذه؛ وإنْ كان لا يزال سطحيّاً في تعليمه الديني، وغائباً عن خطّ خلافة المرجعيّة.
يبقى أكيداً أن الوضع في العراق «خطير للغاية»، إذ لم يشهد البلد أبداً «هذا النوع من العنف، أو التهديد بالعنف المرتبط بعملية تشكيل الحكومة». وفي خضمّ هذا الانسداد، يُلقَى باللوم أيضاً على إيران وحلفائها، بعدما رسّخ حضورها ونفوذها الوضع القائم، في ظلّ عدم ابتداع حلول بديلة من تلك التي ابتدعها الاحتلال. وكونها الفاعل الخارجي الأقوى على الساحة العراقية، فهي سعت، وفق أنتوني بفاف في «المجلس الأطلسي»، إلى تهميش الصدر، لدى محاولته عرقلة تشكيل حكومة جديدة. كما أن الزعيم الصدري حمّلها مسؤولية «استقالة» آية الله كاظم الحائري، والسعْي إلى نقْل ولاء أتباعه، ومنهم الصدريون، إلى المرشد الأعلى، علي الخامنئي. من جهتها، تقول باربرا سلافين، مديرة «مبادرة مستقبل إيران» في «المجلس الأطلسي»، إن «هذه النسخة من العراق غير مستدامة، إذ تمّ تشكيل حكوماته بعد عام 2003 كتحالف مؤقّت بين الجنود الأميركيين ووكلاء الإيرانيين». كان ينبغي، باعتقادها، أن تشكِّل تظاهرات تشرين 2019 «نقطة تحوّل في السياسة العراقية». على أن العنصر الحاسم المفقود في الحراك المذكور، كما تورد، كان «ردع الوكلاء الإيرانيين على أيدي ميليشيا قادرة وغير متحالفة مع إيران: الصدريون الذين يستطيعون تغيير النظام من دون عنف، ومن خلال إجبار الجماعات التي تدين بالولاء لإيران على تقديم تنازلات أساسية تخصّ ميليشياتها».
كالعديد من «سماسرة السلطة» في العراق، فإن علاقة الصدر مع إيران «معقّدة ومتعدّدة الأوجه»


هناك دائماً هدف نهائي؛ يريد الصدر، في النهاية، «إثارة الأمّة واختطاف المشاعر الشعبية ليصبح الرجل الأقوى في العراق»، كما يقول طالباني، في مقالته بعنوان «مقتدى الصدر يريد أن يكون آية الله الخميني في العراق». ويشير ما تقدَّم إلى أن أزمة البلاد يمكن أن تتفاقم قبل أن تظهر أيّ بوادر للحلّ: «استعداد الصدر لمفاقمة الاضطرابات السياسية في العراق، وتأخير تشكيل الحكومة العراقية، وتصعيد الاحتجاجات بما يهدّد بحرب شاملة بين الجماعات الشيعية المتنافِسة»، كلّها عوامل تُنذر بأنه «قادر على دفْع البلاد إلى ما هو أسوأ». فالرجُل «يلعب لعبةً طويلة الأمد» واضعاً نفسه «بحذرٍ كبديل معقول لزعامة العراق، سواء في الداخل أو لدى صانعي السياسات الإقليميين والدوليين». من جهة أخرى، يتحدّث طالباني عن «براعة» الرجل في تحويل خطابه الذي بدأ بمشاعر معادية للولايات المتحدة في أعقاب غزو عام 2003، وصولاً إلى تقديم نفسه على أنه «إصلاحي مؤيّد للديموقراطية وقومي عراقي»، استطاع بـ«حنكته» «الاستيلاء على المزاج السياسي العراقي». وكما الخميني «بنى الصدر ووالده من قَبله جاذبيّتهما في العراق على مرّ السنين على أساس شعبيّتهما لدى الشيعة الفقراء والمحرومين... استخدم الخميني مصطلح المضطهدين لوصف الإيرانيين الذين أهملتهم الملَكية والذين يفترض أن الثورة الإيرانية شُنّت نيابةً عنهم، وهو ما يجري الآن في العراق. لقد صاغ الصدر بذكاء سياسته حول المشاعر المتنامية في العراق والشرق الأوسط الأوسع، حيث ترفض الغالبية العظمى من الناس أيديولوجية الحركات الدينية المسيّسة، وبدلاً من ذلك يفضّلون الحكومات البراغماتية التي يمكنها خلْق المزيد من فرص العمل للشباب، وإصلاح المؤسّسات الدينية، وتعزيز الخدمات العامة». كما يعتقد بأن خطاب الصدر المناهض لإيران كان محسوباً أيضاً، بالنظر إلى أن الزعيم الصدري استطاع الحفاظ على «توازن دقيق» بين مختلف المصالح في البلاد. لكن، كالعديد من «سماسرة السلطة» السياسية في العراق، فإن علاقته مع إيران «معقّدة ومتعدّدة الأوجه، ويحتاج الغرب إلى فهم ذلك»، على ما ينبّه إليه طالباني، مستدركاً أن «شخصاً على دراية جيّدة بالسياسة العراقية مثل الصدر، سيكون مدركاً تماماً أن حكومة أغلبيّة مصمَّمة لاستبعاد الأحزاب والشخصيات الموالية لإيران، لن تكون ممكنة». ولكن استناداً إلى التحوّلات على مرّ السنوات «من غير المرجّح أن الصدر أراد أن يصبح جزءاً من حكومة الأغلبيّة، ومن المرجّح أنه كان يعوّل على فشل التحالف (الثلاثي)»، ومن خلال القيام بذلك، «سيكون الصدر قادراً على القول إنه حاول العمل من أجل مصلحة البلاد، لكن جهوده لم تنجح بسبب ما يسمّيه النخبة الفاسدة. حاول دعْم واختطاف تصاعد الاحتجاجات التي شهدها العراق منذ عام 2018، لأنه يعلم أن مستقبل البلاد يتطلّب فهماً عميقاً لسياسة الشارع».
أمّا ديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق لشؤون الشرق الأدنى، فيلفت، في مقالة في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، بخلاف ما يروّج له الرئيس الأميركي جو بايدن، إلى أن العراق أصبح «أقلّ استقراراً»، منذ تسلُّم إدارته زمام السلطة قبل نحو سنتين، وأصبح لحلفاء إيران السياسيين «اليد العليا» في بلاد الرافدَين، مشيراً إلى أن الوضع كان من الممكن أن يكون مختلفاً لو تمكّن الصدر من تشكيل حكومة لا تهيمن عليها الأحزاب السياسية المدعومة من طهران. بالنسبة إلى شينكر، «ليس الصدر الدواء الشافي» للعراق؛ إذ «(إنّنا) لا نعلم، يقيناً، ما إذا كان رجل الدين - صاحب المواقف المتقلّبة - سيختار في النهاية نظاماً دينيّاً على الطراز الإيراني، وينصّب نفسه مرشداً أعلى عند وصوله إلى سُدّة الحُكم». على أيّ حال، لم يكن غياب انخراط الإدارة الأميركية في محاولة العراق تشكيل حكومةٍ بعد الانتخابات، «مجرّد إغفال غير مقصود، بل كان قراراً متّخذاً عن سابق تصوّر وتصميم»، وفق ما يورد الدبلوماسي السابق نقلاً عن مسؤول كبير في الإدارة، أسرّ له بأن خطّة بايدن كانت تقضي بـ«ترك العراقيين ليحلّوا مشاكلهم بأنفسهم».