غزة | لم يكد يمضي عام واحد على انتهاء معركة «سيف القدس»، حتى عادت غزة لتتصدّر المشهد، على رغم أنّ آثار الحرب الماضية لم تَغِب منها سوى بقايا البيوت المهدّمة التي أتمّت الطواقم المصرية عملية إزالتها في وقت قياسي، فيما بقيت المواجهة، بصور الضحايا، وبحدّة القصف، وبألم الفقد، حاضرة في مخيّلة الغزّيين. كلّ ذلك شكّل مزاجاً عاماً، يحاول أن يقفز على فكرة اقتراب مواجهة جديدة، على رغم التفاعل الوطني مع ما يجري في المدينة المقدّسة. «لا أحد يتمنّى الحرب ولا يشتريها»، يقول الكهل أبو محمد وهو يجلس في مقابل أرض فارغة، كانت قبل عام تحوي بيته المكوَّن من طابقَين. هو لم ينسَ بعد كيف هرب وعائلته قبل أن يُسوَّى منزله وعدد من منازل الحيّ بالأرض. يستذكر في حديثه إلى «الأخبار»: «نجوْنا بأعجوبة، ولا زال وهج الصواريخ الحربية يحرق ذاكرتي، كما أن انتظاري لإعادة الإعمار الذي لم يتقدّم منذ قرابة عام، يجعلني أعيش في أجواء الحرب، وكأنّها لم تنتهِ بعد». بالنسبة إلى الرجل الخمسيني، فإن الذاكرة لم تكد تنسى أهوال المواجهة السابقة، ولذا «أنا ومعي مليونا إنسان في غزة، نتمنّى أن نقضي هذا الشهر بدون دماء»، لكنّه يستدرك بأن «إيقاع صراعنا يفرض ذاته، فإذا وقعت جولة تصعيد جديدة، فليس لنا إلّا أن نذعن لقدرنا في مواجهة الاحتلال ومناصرة المقاومة حتى الرمق الأخير». عبد الله شرشرة، وهو ناشط حقوقي، يرى أن ثمّة مزاجاً شعبياً عاماً في القطاع، «غير مهيّأ» للدخول في مواجهة جديدة مع الاحتلال، وهو الأمر الذي سيلقي بتبعاته مستقبلاً. ويبيّن شرشرة، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «واحدة من تلك التبعات هي أن الفصائل صارت تقيم وزناً أكبر لحسابات الربح والخسارة، وتأثير أيّ مواجهة على مدى توافر مقوّمات الحدّ الأدنى للصمود، على المستوى الشعبي، وأيضاً على مستوى تماسك النظام الإداري في القطاع، الذي تديره حركة حماس». ويلفت إلى أنّ «إسرائيل، بعد أربع حروب مدمّرة، حاولت خلق تغيير جذري في نظرة المواطن الغزّي العادي تجاه السلوك المقاوم، عن طريق ممارسات مِن مِثل إبطاء عملية الإعمار، وفرض معادلة الاقتصاد مقابل الهدوء، إضافة إلى استدراج المقاومة إلى التفاوض غير المباشر على التسهيلات، كلّ ذلك رافقته حملات إعلامية إسرائيلية مكثّفة عبر صفحة المنسّق الإسرائيلي وعدد من الصفحات المشبوهة، تخاطب المواطن بذاته، بأن الهدوء يقابله التسهيلات، وأن الفعل المقاوم يقف حائلاً أمام الحياة الهادئة والرخاء المادي».
ثمّة اتفاق نضج أخيراً رسم حدوداً مدروسة للردّ على ممارسات الاحتلال


لكن هل نجحت إسرائيل في تأثيرها على الشارع الذي خرج من بين طبقاته الأكثر فقراً قرابة 20 ألف مواطن للعمل في الداخل المحتلّ، لأوّل مرّة منذ أكثر من 15 عاماً؟ يجيب الباحث السياسي، إسماعيل محمد، بأن «المزاج الشعبي العام في طبعه يميل إلى الهدوء، وهو سلوك بشري عادي وغير مستهجن، وأن الحرب والمواجهة هي الفعل الطارئ في حياة الأمم». ويضيف محمد، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «العامل الأوّل الذي يجب الوقوف عنده في تحليل الاتّجاه الشعبي، والذي لا يتعارض أصلاً مع توجّه الفصائل التي تحاول بشتّى الطرق أن لا تنجرّ إلى مواجهة، هو عدم التعافي من آثار الحرب السابقة، لا نفسياً ولا مادّياً ولوجستياً، وانحصار فكرة المواجهة بشكل الحرب، المكلفة بشرياً ومادياً». ويستدرك بأنه «مهما كانت الظروف، فإن الاعتداء الصارخ على مقدّس وجداني بحجم المسجد الأقصى وفي خلال شهر رمضان، كفيل بأن يكوّن في لحظة الصفر، مناخاً شعبياً لن يواجه قرار المقاومة بالتصعيد، بالسخط كما يشتهي الاحتلال».

مواجهة بميزان الذهب
من جهتها، تؤكد مصادر في المقاومة أن الحالة الاجتماعية المنهَكة، وضرورة تلافي الضغط على الحاضنة الشعبية، حاضرتان في حسابات التصعيد الذي بدا أخيراً وكأنه لا مفرّ منه. ولذا، فإن أيّ خطوات متوقَّعة ستكون مدروسة، سواءً لجهة الحدود التي يجب أن لا تمتدّ إلى حرب مدمّرة؛ أو لجهة الأهداف التي ينبغي أن تثبّت معادلة توحيد الساحات التي فرضتها معركة «سيف القدس»، كي لا تسمح للاحتلال بالاستفراد بالمدينة المقدّسة، تحت ضغط المتطلّبات المعيشية لسكّان القطاع، وهو الأمر الذي شدّد عليه الأمين العام لحركة «الجهاد الإسلامي»، زياد النخالة، في تصريح صحافي، أكد فيه أن «تهديدات العدو بوقف التسهيلات عن غزة لا تستطيع أن تجعلنا نصمت عمّا يجري في القدس والضفة المحتلة، وأن ما يجري في القدس من انتهاكات تعادله أرواحنا». لكن المصادر نفسها توضح أن ثمّة اتفاقاً نضج أخيراً، رسم حدوداً مدروسة للردّ على ممارسات الاحتلال، تتمثّل في أن ينحصر الفعل العسكري في مدى معيّن، يضمن زيادة الضغط على العدو من أطراف إقليمية ودولية، بهدف وقف التصعيد وتلافي مواجهة أكثر اتّساعاً وتكلفة.