بغداد | بعد عام ونيّف على خفض قيمة الدينار العراقي لتعويض العجز في المالية العامة، والناجم في غالبيّته عن الفساد ونهب المال العام، وما أدّى إليه هذا من تدهور القدرة الشرائية لرواتب الموظفين الحكوميين، استفاقت القوى السياسية على تأثير ذلك على حياة العراقيين. وتأتي هذه الاستفاقة في أعقاب موجة تضخّم جديدة نجمت عن الارتفاع الكبير في أسعار النفط، والذي رفع بدوره كلفة السلع المستورَدة التي يعتمد عليها العراقيون في ظلّ ضعف الإنتاج المحلي، من دون أن تكون بعيدة من سياق المزايدات التي فرضتها أزمة سياسية تسبّبت بها الخلافات على تشكيل الحكومة الجديدة
حين قرّرت الحكومة العراقية، في 19 كانون الأول 2020، خفض قيمة الدينار من 1180 إلى 1450 للدولار الواحد، لم تعترض القوى السياسية المتورّطة في معظمها في الفساد على هذا الإجراء، وهي كانت كلّها شريكة في تلك الحكومة، لكن بعضها يحمّل حالياً الحكومة نفسها مسؤولية ذلك القرار، مُحاوِلاً حصرها بوزير المالية، علي عبد الأمير علاوي، المستمرّ حتى الآن في منصبه؛ فما الذي تغيّر؟ جرى اتّخاذ الخطوة المذكورة في ظلّ انخفاض كبير في أسعار النفط، مع وصول الموجات الأولى لوباء «كورونا». وبما أن عائدات النفط تغطّي نحو 92% من مجمل الإنفاق الحكومي، وقع البلد في عجز مالي، لكنّ القوى السياسية نفسها تتبادل الاتهامات في ما بينها بنهب جزء من هذه العائدات، الأمر الذي جعل الحكومة أمام خيار وحيد هو خفض قيمة الدينار، علماً أنه كان بالإمكان اتّخاذ إجراءات أخرى لتقليل الاعتماد على النفط، لكنّ فساد الحكومات المتعاقبة منذ الاحتلال، وتحت نظره، حال دون إجراء أيّ إصلاحات هيكلية للاقتصاد العراقي.
وأعادت القضيةَ إلى السجال السياسي حديثاً، تغريدةٌ أطلقها زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، اعتبر فيها أن خفض سعر الدينار لا ينبغي أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية وخاصة السلع المهمّة، داعياً إلى معاقبة مَن يسعى إلى ذلك من التجار، وفق القانون، خاصة أن التضخّم الذي يشهده العراق يعود إلى ارتفاع أسعار السلع في بلدان المنشأ، بسبب الارتفاع الأخير في أسعار النفط. وتصدّى التيار للمسألة في مجلس النواب الجديد، مطالباً القضاء بمنع وزير المالية من السفر بعد امتناعه عن المثول أمام البرلمان (قبل أن يقرّر أمس الحضور لمناقشة القضية، بعد تخفيف البرلمان لهجته ضدّه من «استدعاء» إلى «مناقشة»)، على رغم أن الوزير الذي يُعتبر مستقلّاً كان قد عُيّن في منصبه بترشيح من «الصدريين». ويقول القيادي البارز في التيار، رياض المسعودي، في حديث إلى «الأخبار»، إنه «كان ينبغي سداد العجز الكبير في الموازنة، إمّا بتخفيض رواتب الموظفين أو الذهاب باتجاه تعزيز الإيرادات غير النفطية أو الاقتراض. وفعلاً، تمّ إقرار قانون الاقتراض الداخلي والخارجي بمبلغ وصل إلى 20 مليار دولار، وكان ضمن خطّة وزارة المالية تغيير سعر الصرف أمام العملات الأجنبية، وصولاً إلى تحقيق وفر يصل إلى 10 مليارات دولار من سعر الصرف. كما كان من ضمن الآراء المطروحة تغيير سعر الصرف من قِبَل وزارة المالية والبنك الدولي، وهو رأي اقتصادي وليس سياسياً»، مضيفاً أن «تحالف سائرون لم يكن أبداً متبنّياً هذا الطرح، ولم يكن مؤيّداً له، مع التأكيد على حقيقة أن الجهة المالكة للدولار الأميركي هي وزارة المالية من خلال المبالغ المستحصَلة من خلال بيع النفط من قِبَل وزارة النفط. ودور البنك المركزي بموجب قانونه، هو تحويل هذه العملة الصعبة من الدولار إلى الدينار العراقي من خلال طرح الدولار للبيع في ما يُعرف بمزاد العملة».
يتحدّث «التيار الصدري» عن فقدان العراق المزيد من العملة الصعبة من خلال تهريبها إلى الخارج


ويردّ المسعودي على اتّهام البعض «الصدري» بأنه طالب بتغيير سعر الصرف، بالقول إن «التيار طلب إجراء حزمة من الإصلاحات المالية والنقدية والاقتصادية المتمثّلة في إيقاف تهريب الدولار الأميركي خارج العراق عن طريق المصارف، وإيقاف الفساد في مبيعات البنك المركزي. ومن بين 73 مصرفاً، هناك تقريباً 15 إلى 20 مصرفاً في دائرة الفساد تمّ تحديدها». ويضيف أن «التيار الصدري يطالب بتحسين قيمة الدينار الفعلية وليس العددية، والذهاب في اتّجاه دعم المشاريع الزراعية والصناعية. أمّا تحديد سعر الصرف فنقول إنه ينبغي أن يكون في اتّجاه وضع معايير حقيقية لإيجاد سعر صرف حقيقي للدينار». ويتحدّث عن أن «حاجة العراق الفعلية من الدولار الأميركي لتعزيز مشتريات الحكومة الخارجية لا تزيد عن 12 إلى 15 مليار دولار، بينما مبيعات الدولار من المركزي تصل إلى أكثر من 60 مليار دولار. وهذا يعطي انطباعاً بوجود فواتير مزوّرة وغسيل وتهريب للأموال. لذلك، يفقد العراق المزيد من العملة الصعبة من خلال تهريبها إلى الخارج، خاصة إذا علمنا أن عدداً من دول الجوار تعاني انخفاضاً في إيراداتها من العملات الصعبة».
أمّا عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار النيابية السابق، مازن الفيلي، فيرى، في حديث إلى «الأخبار»، أن الحكومة، من خلال خفض الدينار، «اتّجهت إلى الحلّ السريع عليها والصعب على الشعب العراقي والمواطن، خاصة الطبقات الفقيرة والهشّة، بل حتى الأغنياء تضرّروا، إذ تَسبّب عجز الحكومة العراقية عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه المواطنين ورواتبهم بإصابة الأسواق بالشلل»، لافتاً إلى أن «الإيرادات الحكومية من غير النفط تكاد تكون شبه معدومة، فالمنافذ الحدودية وشركات الهاتف النقال والصناعة والزراعة والاستثمار والتجارة، كلّها إيراداتها لا تساوي 5% أو عشرة في أحسن الظروف، من تلك الإيرادات». ويشير الفيلي، الذي كان ينتمي إلى «كتلة النهج الوطني»، إلى أن «الكتلة اعترضت على القرار من بدايته كونه مستعجَلاً وغير مدروس، لكنّنا لم نجد من الحكومة آذاناً صاغية. بل على العكس، انبرى الكثير من القوى والكتل السياسية وأعضاء الحكومة للدفاع عن هذا القرار باعتباره قراراً تاريخياً ويسير في الاتجاه الصحيح، لكن بعد تزايد الضغط الشعبي قبل أيام بدأنا نسمع صيحات الجميع. وحتى مَن كان مؤيّداً، أصبح يتنصّل ويلعن القرار». ويشدّد الفيلي على ضرورة «أن تُعدّ الموازنة بصورة صحيحة، وبرأيي، من الضروري أن يرجع سعر الصرف إلى السابق للحدّ من معاناة المواطنين». من جهته، وفي تفسيره لسبب ارتفاع الصوت الآن، يقول المدير العام السابق في البنك المركزي، محمود داغر، لـ«الأخبار»، إن «الضغط السياسي على البنك المركزي لإعادة تعديل سعر الدينار يرتكز إلى أن أسعار النفط ارتفعت كثيراً في الآونة الأخيرة، وزادت الإيرادات الحكومية»، إلّا أنه يعتبر أن «هذه الدعوة غير علمية، لأن تغيير سعر الصرف مرّتَين خلال عام ونيّف يُعتبر مخلّاً باستقرار السوق».