بغداد | أظهرت الاغتيالات المتبادلة التي سُجّلت في محافظة ميسان أخيراً، أن الانقسام الحاصل بين القوى السياسية «الشيعية»، يمكن أن يجرّ إلى اقتتال داخل الطائفة الواحدة، حتى لو لم تكن هذه رغبة قادة تلك القوى. فما شهدته المحافظة، ُيُوضع من قِبَل سياسيين وخبراء معنيّين فيها تحدّثوا إلى "الأخبار"، في إطار الجريمة المنظَّمة، لكن المرتبطة بالتركيبة العشائرية، وعبْرها بالصراع السياسي في البلد؛ إذ إن العشائر تَدين بالولاء للقوى السياسية التي تعمل على المستوى الوطني، لكنّها في الوقت نفسه تضمّ عصابات تعتاش على الجريمة المنظّمة. صحيح أن ميسان معروفة باحتضانها بؤراً لعصابات تهريب المخدرات في ظلّ ضعف القوى الأمنية هناك، إلّا أن الجديد اليوم هو احتدام الصراع السياسي الذي صار ينعكس على المحافظة ككلّ، ويتغذّى من عوامل التفجير المتوافرة فيها. وممّا يدلّ على ذلك هو أنه حين اغتيل القاضي المختصّ بقضايا المخدرات، أحمد فيصل الساعدي، الأسبوع الماضي، لم تستطع القوى الأمنية اعتقال الجناة، لأنهم محميّون سياسياً ونافذون لدى جهات حكومية. لكن التسييس بلغ مداه بعد اغتيال كرار أبو رغيف، المقاتل في "سرايا السلام" التابعة لزعيم "التيار الصدري" مقتدى الصدر، بخاصة أن الصدر وضع الاغتيال في إطار الضغط من قِبَل جهات سياسية لفرض مشاركتها في الحكومة الجديدة، متّهماً ضمناً "عصائب أهل الحق" بالوقوف وراء الاغتيال. حتى البيان الذي أصدره الصدر وأعلن فيه إرسال وفد إلى ميسان من كبار قادة "التيار" للتفاوض مع "العصائب"، انطوى على انحياز واضح، وهو ما استتبع انتقادات واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي. إذ إن الصدر قال إنه إذا لم يستجب أحد الطرفَين، أي عناصر "التيار" و"العصائب"، لدعوته، فإنه سيعلن البراءة من كلَيهما، مضيفاً أنه "على مسؤول العصائب التعاون مع تلك اللجنة ودرء الفتنة، وإلّا سيكون ذلك باباً للتبرّؤ منه ومن غيره أيضاً"، وهو ما أثار استغراباً واسعاً، على اعتبار أنه كان على الصدر، ما دام قد قرّر التصرف بـ"أبويّة" إزاء الجانبَين، أن يعلن البراءة من الطرف الذي يرفض الاستجابة، لا من كلَيهما.
حتى الآن، يبدو أنه ما زال من الممكن تلافي انفجار واسع في المحافظات الجنوبية


إزاء ما تَقدّم، يقول النائب عن محافظة ميسان من "ائتلاف دولة القانون"، جاسم العلياوي، في حديث إلى "الأخبار"، إن "طريقة تركيب المحافظة معروفة، ولها امتدادات عشائرية وسياسية، وعندما تشتعل نار الفتنة بين طرفَين، تؤثّر في امتداد تلك الأطراف المتنازعة على مستوى العشائر والجهات السياسية"، مضيفاً أنه في "الآونة الأخيرة برزت عصابات لديها أهداف اقتصادية تتناحر عليها، وأثّر ذلك في عمقها العشائري والسياسي". ويلفت إلى أن "المستجدّات الإيجابية في واقع المحافظة تمثّلت في إقامة غرفة عمليات خاصة لديها استقلالية في الإجراءات الأمنية، بعدما كانت سابقاً تابعة لعمليات سومر. وقد تمّ تعزيز حجم القوة الموجودة في المحافظة، وكذلك نوعية هذه القوة، فالجيش له مهنيته في العمل ولا يستميله أيّ طرف سياسي"، إلّا أنه يشير إلى أن "التقدّم الحاصل في تنفيذ أوامر الاعتقال لم يكن بالمستوى المطلوب، فلا زال بعض المطلوبين أحراراً، وهؤلاء كانوا السبب الرئيس لزعزعة الوضع".
من جهته، يوضح الخبير الأمني، علي الحر، وهو من ميسان، في تصريح إلى "الأخبار"، أن "الخروقات الأمنية الأخيرة في المحافظة تحمل طابعاً جنائياً وليس إرهابياً، لكنّ تصاعدها سيتّخذ الصبغة الإرهابية تدريجياً إذا لم يُتدارك الأمر ويُصلح الموقف"، مضيفاً أن "الاغتيالات الأخيرة تحمل طابعاً سياسياً"، مستدلّاً على ذلك بردود الفعل التي أثارتها "كالتصريح الأخير للسيد مقتدى الصدر، والذي يدلّ على أن الجناة معروفون والحكومة والأجهزة الأمنية عاجزة عن الإمساك بهم وتقديمهم للعدالة"، شأنه شأن "توجيه الشيخ قيس الخزعلي (أمين عام العصائب) بتشكيل لجنة للتعاون مع الوفد الذي شكّله الصدر". ويلفت الحر إلى أن "الاختناقات السياسية المستمرّة تلقي بظلالها على كافة الملفّات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية"، مضيفاً أن "تداخل بعض أفراد العصابات والقيادات السياسية مع العشائر يعقّد الأمور"، وأن "الخطورة تكمن في أنه لو استمرّ الانهيار الأمني في ميسان، فسيجرّ إلى انهيار أمني في بعض المحافظات الأخرى التي تُعتبر رخوة أمنياً".
حتى الآن، يبدو أنه ما زال من الممكن تلافي انفجار واسع للأحداث الأمنية في المحافظات الجنوبية التي يغلب على سكّانها الشيعة، وما زال ممكناً احتواء ما جرى في ميسان بالذات وحصره في طابعه الجنائي، لكن تفعيل الإجراءات الأمنية في المحافظة، والذي تَقرّر بعد زيارة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إليها، لن يكون وحده كافياً لإقرار التهدئة، التي يمكن أن تتحقّق فقط باتفاق بين القوى السياسية على فصْل الخلاف السياسي عن الصراعات العشائرية والجنائية، وذلك برفْع الغطاء عن المرتكبين.