تونس | ما زال الدّستور التّونسي الحاليّ مثيراً للجدال والخلافات، بين مَن هلّلوا له واعتبروه «أعظم دستور في العالم»، وبين مَن رفضوه وقالوا إنه «مصدر لكلّ الشرور التي حاقت بالبلاد». وازداد التّنازع حول موضوع الدّستور ووجوب التمسّك به أو التخلّص منه، بعد أن أعلن الرئيس التونسي، قيس سعيد، في 25 تموز من العام الجاري، إجراءاته الاستثنائية التي جمّعت اختصاصات السّلطة التنفيذيّة كلّها في قبضته، وجمّدت عمل السّلطة التشريعيّة المتمثّلة في مجلس نوّاب الشعب. ثمّ اشتدّت خلافات الفرقاء التونسيّين بعدما أصدر سعيّد، في 22 أيلول 2021، أمره الرئاسيّ الذي نصّ على تعليق العمل بفصولٍ كاملة في الدستور، والاحتفاظ فقط بتوطئته وبالبابَين الأوّل والثاني منه المتعلّقَين بالأحكام العامّة، فأصبحت أحكام ذلك الأمر الرئاسي أعلى شأناً من الأحكام الدستورية التي تتعارض معه. ولم يُخفِ سعيّد نفوره الدائم من دستور بلاده الذي كان قد أقسم على احترام أحكامه، إذ اعتبر في أحد تصريحاته أن «أزمة تونس تكمن في دستور 2014 الذي لم يَعُد صالحاً، ولم تَعُد له مشروعيّة».
«دستور التوافق»
يومَ صادق المجلس الوطني التأسيسي، في 26 كانون الثاني 2014، على دستور البلاد الجديد، بأغلبية مطلقة (200 نائب من أصل 217)، سادت بهجة بين أطياف الطبقة السياسية كافة بهذا الإنجاز. فقد جاء إقرار الدستور بعد مخاضٍ سياسي وقانوني عسير، تواصَل أكثر من عامَين، عرفت خلالهما تونس أحداثاً صعبة ونزاعات كبيرة، كادت تعصف بالانتقال الديموقراطي برمّته. وعاشت البلاد، خلال تلك الفترة، صراعات فكرية وأيديولوجية وسياسية تتعلّق بمدنيّة الدولة، وحرّية الضمير، وطبيعة النظام السياسي، واستقلالية الإعلام والقضاء. ثمّ بلغت الأزمات ذروتها بعد اغتيال القياديَّين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، ممّا جعل ظلالاً قاتمة تخيّم على عملية الانتقال، وتُربك استقرار البلاد وأمنها. وخَشِي الجميع، في ذلك الوقت، من سقوط تونس في خطر الفوضى والعنف و الإرهاب والاقتتال. وفرضت الأحداث أن يسرّع المجلس التأسيسي في كتابة الدستور، كما أجبرت حكومة علي العريض (النهضة وحلفاؤها) على الانسحاب من الحُكم. وكان لزاماً على الأطراف المتصارعة أن تلتفّ، وأن توجِد ميثاقاً اجتماعياً تتّفق حوله، وإلّا انفرط عقْد البلاد. في تلك الأجواء، صيغ الدستور باعتباره مصدراً للتوافُق بين التونسيّين.
يَعتبر سياسيون ورجال قانون عديدون أن «دستور التوافق» لم يكن سوى منتَج «تلفيقي»


عيوب الدستور
يَعتبر سياسيّون ورجال قانون عديدون أن «دستور التوافق» لم يكن سوى منتَج «تلفيقي» أسّس لنظام سياسي «هجين»، يتميّز بإجراءاته المعقّدة والمستعصية. ودليلهم على هذا هو عدم قدرة السياسيّين على تركيز هيئات أساسية في نظام الحُكم، مِن مِثل المحكمة الدستورية. لكن المشكلة الأكبر في الدستور الحالي تكمن في عدم إمكانية تعديله أو إصلاحه، بالنظر إلى أن ذلك يحتاج إلى «شبه إجماع» غير مقدور عليه. وقد أدّت كلّ هذه العيوب في النظام السياسي الراهن، إلى إعاقات في مسار التنمية، وفي تحقيق استقرار سياسي واقتصادي و اجتماعي منشود. وينتقد قانونيّون، أيضاً، غياب الرؤية الاجتماعية في دستور 2014؛ فهو لا يقرّ منوالاً واضحاً للتنمية، ولا يُلزم الدولة بالتزامات اقتصادية تجاه مواطنيها. أمّا أكبر لُغم فيه، فلعلّه الطبيعة المزدوجة للسلطات التنفيذية. فالإسلاميون الذين يعلمون جيّداً أنه ليس بمقدورهم حُكم البلاد بمفردهم، اختاروا الرهان على نظام برلماني يكفل لهم المشاركة في حكومات تقوم على المحاصصات والتحالفات، بيد أنهم لم يقيموا وزناً لما قد تواجهه تلك الحكومات الائتلافية من ابتزازات، واشتراطات، ومطالبات تجعل من عملها محدوداً وخاضعاً للترضيات والتسويات، بل ومتعامياً عن الفساد والمحسوبيّة. وفي المقابل، منحت الفئات التي تتخوّف من تغوّل الإسلاميين، رئيس الجمهورية، القدرة على فرملة الحكومة وعرقلتها أحياناً، بما لديه من صلاحيات التعطيل. بالنتيجة، لم يَخْلُ دستور الجمهورية الثانية من ثغرات وعيوب، انعكست بطءاً في تنفيذ بنوده وأحكامه، وجعلته يتأرجح على مستوى التطبيق العملي، ممّا تسبّب بتداعيات سلبية للغاية على نجاعة القرار السياسي، وأداء النشاط الاقتصادي، وتطلّعات الشرائح الاجتماعية، وانعكس فشلاً وعجزاً في أداء النظام برمّته.