اغتالت إسرائيل، في الـ16 من تشرين الأوّل الماضي، الأسير السوري المحرَّر والناشط البارز في منطقة القنيطرة، مدحت الصالح، بعملية «نظيفة» أرادتها خالية من بصماتها، التي نطقت بها، على رغم ذلك، الكثير من المؤشّرات. وإذا كانت ثمّة أسباب عديدة لدى العدو لتصفية صالح، الذي نشط في مواجهة المشاريع الاستيطانية في الجولان المحتلّ، والتعاون مع أصحاب الفعل المقاوم في كلّ ساحة من المنطقة الجنوبية، فإن اغتياله يندرج أيضاً في سياق سعي تل أبيب إلى تظهير صورة "قوّتها" بوجه أهالي القنيطرة تحديداً، وتهشيم إرادة المقاومة لديهم عبر استهداف رموزهم وحاملي قضيتهم وأوجاعهم، كما أوجاع أهلهم في الهضبة المحتلّة
يوم السبت، السادس عشر من تشرين الأول الفائت، توجّه الأسير السوري المحرَّر من سجون العدو، مدحت الصالح، من مسكنه في جرمانا شرق العاصمة دمشق، إلى بلدة حضر في ريف القنيطرة الشمالي، مقابل الجولان المحتلّ. عصر ذلك اليوم، كان الصالح يُنجز بعض الترتيبات الفنّية المتعلّقة ببناء منزله الجديد، قرب موقع «عين التينة» الشهير، مقابل بلدة مجدل شمس في الجولان. يروي شهود عيان على الجهة المقابلة من الحدود في الأراضي المحتلة، في حديث إلى «الأخبار»، أن «سيّارة سياحية إسرائيلية ركنت قرب إحدى البوّابات المطلّة على وادي الصراخ الفاصل بين حضر ومجدل شمس، وترجّل منها شخص يرتدي ملابس مدنية، وشرع بإطلاق النار باتجاه منزل الصالح، ليصيبه في قلبه وصدره وأنحاء أخرى من جسده». ويضيف الشهود أن «القاتل انسحب من الموقع بسرعة»، فيما فارق مدحت الحياة أثناء إسعافه إلى بلدة حضر القريبة. وبحسب مصادر عسكرية سورية، فالمرجّح أن «تكون سيارة الصالح قد رُصدت من موقع العدو الإسرائيلي في تلّة سحيتا المحتلّة، وتمّت متابعتها إلى حين وصول مدحت إلى مقتله، حيث تمّ إطلاق النار عليه مباشرة».
وتثير طريقة الاغتيال هذه العديد من التساؤلات؛ إذ لم تعتَد إسرائيل تنفيذ اغتيالات في القنيطرة عبر إطلاق الرصاص الحيّ. كما أن تصفية الشهيد الصالح على يدَي رجل بلباس مدني وبسيارة سياحية، تُظهر وجود نيّة لتجهيل هويّة القاتل، وهو ما يصبّ في خانته أيضاً إحجام العدو عن تبنّي الاغتيال، أو حتى التعليق عليه رسمياً، على رغم أن كلّ المؤشرات، بما فيها التغطية الإعلامية العبرية، تؤكد مسؤولية الاحتلال عن الواقعة، التي بدا واضحاً حرصه على ربطها بخلفية جنائية، أو أيّ شيء آخر بعيد من أذرعه الأمنية والعسكرية. على أن الأكيد أن العدو عمل ولا يزال، في أكثر من ساحة، على استهداف الناشطين البارزين في كلّ حراك مقاوم له ولمشاريعه، وإن لم يكن عسكرياً، وذلك لمجرّد التأكيد بالدم، أنه لن يتساهل مع أيّ محاولة لمقاومته. وفي حالة الشهيد الصالح، كما في جزء ما من حالة الشهيد سمير القنطار، كان الهدف الإسرائيلي واضحاً: كسر إرادة المقاومة لدى أهالي القنيطرة عبر قتل المقاومين منهم حيث أمكن.
كان الشهيد الصالح أحد أبرز الفاعلين في تمتين العلاقات بين أهالي القنيطرة والجولان


يروي عدد من أبناء المنطقة، ممّن عرفوا الصالح، أن الشهيد لعب دوراً سياسياً توعوياً في إطار علاقته مع أهاليه في الجولان المحتل، وهو كان محرّضاً دائماً على رفض مشاريع الاستيطان كافّة، بما فيها مشروع «المراوِح». ويضيف هؤلاء أن الصالح كان «يقدّم استشارات علنيّة حول التركيبة العسكرية والتنظيمية لجيش الاحتلال في الجولان، لكلّ من يعتقد أنه يمكن أن يقوم بفعل مقاوم»، كما تمتّع بـ«علاقات مميّزة مع الحركة الأسيرة في سجون العدو». ولعلّ كلّ ما تَقدّم يمثّل مجتمعاً، السبب الكامن خلف اتّخاذ قرار تصفيته. على المقلب الإسرائيلي، أدرجت وسائل الإعلام الاغتيال ضمن مسار «مواجهة إيران في الجولان»، مشيرة إلى أن «الصالح يُعرف بأنه رجل ارتباط إيران في جنوب سوريا»، مضيفة أن الشهيد «درزي عاش في مجدل شمس بهُوية إسرائيلية، وسُجن 12 سنة في إسرائيل على خلفية جرائم أمنية نفّذها في الثمانينيات: التخطيط لهجمات ولخطف جنود». وكما في كلّ اعتداء على سوريا، زعمت تلك الوسائل أن الشهيد «كان في ذروة إقامة بنى تحتية عسكرية لشنّ اعتداءات ضدّ إسرائيل على حدود الجولان»، متابعة أنه «على ما يبدو خطّط لأمور سيّئة»، لافتة إلى أن التقدير السائد لديهم هو أن الصالح «اغتيل ليس بسبب أعماله السابقة، بل بسبب الجرائم المستقبلية والأمور السيّئة التي خطّط لها على الحدود». لكنّ اغتيال الأسير المحرَّر، بحسب إعلام العدو، لن يعكّر «الهدوء في هضبة الجولان»، كما لن تؤدّي «تصفيات من هذا النوع إلى تصعيد».
وطوال سنوات الحرب في سوريا، استمرّت العلاقات المتينة بين أهالي بلدة حضر وسائر قرى القنيطرة من جهة، وقرى الجولان المحتل من جهة أخرى، بحُكم الروابط الدينية والاجتماعية والوطنية، وكان الشهيد الصالح أحد أبرز الفاعلين في تمتين هذه العلاقات والحفاظ عليها تحت أيّ ظرف. كذلك، لعب أهالي الجولان دوراً كبيراً في تقديم المساعدات المالية لأهالي حضر، عن طريق التحويلات المالية بواسطة المصارف الأردنية، ليتمّ لاحقاً توزيعها على العائلات، لكنّ تلك التحويلات انخفضت أخيراً بعد انتفاء أشكال الحرب في المنطقة. وقبل الحرب، كان السوريون يعبرون نحو الأراضي المحتلة، بواسطة معبر القنيطرة وبرعاية «الصليب الأحمر الدولي»، وبإجراءات وشروط مشدّدة إسرائيلية. أمّا خلال الحرب، فقد أصبح التسلّل هو أسلوب الانتقال الوحيد بين جانبَي الحدود، لكنّ العدو عاد إلى تشديد قبضته في الفترة الأخيرة، عقب عبور مستوطِنة إلى الأراضي السورية، لتتمّ مبادلتها لاحقاً بأسرى سوريين. ويحتفظ أهالي القنيطرة بمكانة خاصّة للجولان المحتل، خصوصاً في ظلّ احتدام حملات التطبيع في المنطقة. وقد ازداد التفاعل بين الضفّتَين خلال العامَين الماضيَين، إثر إعلان حكومة العدو إنشاء مستوطنة في الجولان باسم «مستوطنة ترامب»، بعدما اعترفت إدارة دونالد ترامب بـ«سيادة» العدو على الهضبة. وفي إطار رفض إنشاء المستوطنة المذكورة، ورفض مشاريع الاستيطان على اختلافها، نشط الشهيد الصالح، مستثمراً معرفته بمفاصل المنطقة، وقدرته على التواصل مع أهاليها، وفهمه لجميع الحيثيّات والظروف المرافقة. وكان له دور فاعل أيضاً في مواجهة مشروع «المراوح» الإسرائيلية، والذي قوبل على امتداد العامَين الحالي والسابق، بمقاومة من أهالي الجولان، ساندهم فيها أهالي القنيطرة.