تونس | كما كان متوقّعاً في أعقاب خطاب قيس سعيد الإثنين الماضي، والذي تباينت التفسيرات القانونية بشأنه، أعلن الرئيس التونسي، مساء أمس، تعليق العمل بالدستور جزئياً، وتحديداً بالأبواب والأحكام التي تتعارض مع التدابير الاستثنائية، تمهيداً لـ»بدء الإصلاحات السياسية بالاستعانة بلجنة يتمّ تنظيمها بأمر رئاسي». وجاء ذلك بعدما أثار خطاب سعيد غضب القوى والأحزاب المناهضة له، في وقت أظهرت فيه زيارته العلنية إلى سيدي بو زيد، المحافَظة التي يخشاها السياسيون، أن ثمّة مزاجاً شعبياً لا يزال مائلاً إليه، على رغم تصاعد التحذيرات، حتى من قِبَل تيارات غير مغالية في مخاصمة سعيد، من نهج خطير يقوده الأخير، قد لا تُحمَد عقباه
بعد قرابة شهرين من التدابير الاستثنائية التي أعلنها الرئيس التونسي قيس سعيد، يبدو جليّاً أن الضغوط الداخلية والخارجية لا تجد صداها في قصر قرطاج، حيث لا يزال الرئيس وطاقمه الاستشاري ينفردان بصياغة معالم المرحلة المقبلة، وهو ما تأكّد مجدّداً في الكلمة التي ألقاها سعيد في محافظة سيدي بوزيد مساء الإثنين، حيث أعلن أن «لا شيء سيثنيه عن مواصلة ما شرع به»، مهدّداً باستعمال «صواريخ دستورية جديدة» إن اضطرّته الطبقة السياسية لذلك، وهو ما عمد إلى تنفيذه بالفعل مساء أمس. وكان سعيد حطّ، قبل أيام، في المحافظة التي يعتبرها «مغدورة»؛ إذ سُرقت منها ثروتها، وبقيت ترزح تحت الفقر لمصلحة فئة أثرت على حسابها، كما كان يردّد في خطابات سبق وأن ألقاها في زيارات غير مرتّبة مسبقاً للمحافظة الغاضبة دوماً على السلطة (انقطعت الزيارات الرسمية للرؤساء إلى سيدي بوزيد - حتى في ذكرى الانتفاضة - منذ عام 2012، بعد رشق الرئيس الأسبق، المنصف المرزوقي، بالحجارة هناك، ورفع شعارات رافضة لحضوره)، والخطيرة أمنياً أيضاً لقربها من جبل الشعانبي الذي يتّخذه الإرهابيون معقلاً لهم.
قدّم سعيد، في زيارته التي حملت دلالات كبيرة نظراً إلى الاعتبارات المشار إليها أعلاه، سردية متكاملة لما جرى في 25 تموز، مُدخِلاً إليها مصطلحات جديدة من قبيل «الخطر الداهم»، الذي اعتبر أنه تصدّى له «منفرداً، ومن دون تدخّل من أيّ جهة»، بعد زيارته «مستشفى الرديف» (منطقة فقيرة في جنوب غرب البلاد، على رغم احتوائها على مناجم الفسفاط، واشتهارها بانتفاضة الحوض المنجمي التي قمعها نظام زين العابدين بن علي بعنف مادي وهيكلي)، حيث وجده من دون ماء ولا كهرباء ولا أوكسيجين بينما كان يؤوي مئات المصابين بجائحة «كورونا». وأشار سعيد إلى اطّلاعه على معطيات حول «مليارات من الدولارات دُفعت في دول غربية للتشويه»، في تلميح إلى عقود وقّعتها «النهضة» مع شركات متعدّدة الجنسيات لحشد الرأي العام الدولي ضدّه. أمّا عن اتّهامه بالتعثّر والارتباك، فقد ردّ بأن بطء المسار كان مقصوداً من أجل إحداث «فرز وطني بين الصادقين والمخادعين» على حدّ تعبيره، مستدركاً بإعلان اعتزامه إصدار أحكام انتقالية في ما يخصّ الدستور، مع الحفاظ على الفصول المتعلّقة بالحقوق والحرّيات (نصّ الأمر الصادر مساء أمس على مواصلة العمل بتوطئة الدستور، وبالبابين الأول والثاني منه، وبجميع الأحكام التي لا تتعارض مع التدابير الاستثنائية)، على أن يصار لاحقاً إلى تعيين رئيس للحكومة.
جاءت كلمة سعيد مثقلة بالرسائل والتلميحات، في ما يمثّل طريقة مألوفة في خطاباته


هكذا، جاءت كلمة سعيد مثقلة بالرسائل والتلميحات، في ما يمثّل طريقة مألوفة في خطاباته، تستهدف استثمار الريبة في نفوس متابعيه، من أجل تعميق حالة انعدام الثقة لديهم بالطبقة السياسية، ومَحْورة اهتمامهم حوله، الأمر الذي تصبّ في اتجاهه أيضاً سخريته من احتجاجات السبت في العاصمة، بوصفها بـ«المسرحية». خيّر سعيد، ما سمّاه «شعب الثورة المغدورة»، بين الاستحقاقات السياسية كالإعلان عن رئيس الحكومة وتركيبتها، وبين الحرب على الفساد والاحتكار والمضاربين، عازفاً بذلك على وتر الغضب من «عصابات النهب والسرقة» التي يمثّلها في مخيال الجمهور الحكومة والمحافظون والمسؤولون الجهويون، والحقد على «الأثرياء الجدد». وإذ لا يزال سعيد مستأثراً بالفضاء العام منذ قرابة الشهرين، فقد شكّل خطابه مادّة خصبة لفقهاء القانون الدستوري المنقسمين بين مؤيّد ومعارض؛ إذ اعتبر فريق منهم الأحكام الانتقالية بمثابة إعلان عن نهاية دستور 2014، وهو ما من شأنه إفقاد قرارات الرئيس شرعيّتها القانونية بانتهاء الدستور الذي ترتكز عليه، بينما فسّر آخرون إعلانه بأنه تعليق جزئي لموادّ صيغت على عجل للانفراد بالسلطة وتركيزها لدى الحزب الحاصل على أغلبية المقاعد في البرلمان، في ما يمثّل «دكتاتورية مجلسية»، وبالتالي فإن التعديل في محلّه.
وعلى المستوى السياسي، تواترت البيانات والتصريحات من قِبَل الأحزاب والقوى السياسية عقب خطاب سعيد، ليكون موقف الرئيس الأسبق، المنصف المرزوقي، الأكثر حدّة بدعوته البرلمان إلى الاجتماع من جديد من أجل عزل الرئيس وإنقاذ البلاد. واعتبرت حركة «النهضة»، من جهتها، أن عزم سعيد إعلان أحكام انتقالية يمثّل «توجّهاً خطيراً وتصميماً على إلغاء الدستور، مصدر كلّ الشرعيات»، داعية إلى «التشارك في رسم ملامح المرحلة المقبلة، وأساسها استئناف البرلمان لنشاطه ورفع التجميد عنه». أمّا «الاتحاد العام التونسي للشغل» فلم يَصدر موقف عنه بعد، في وقت لا يزال يحاول فيه احتواء النقاشات السياسية مع أحزاب تتأرجح مواقفها من إجراءات 25 تموز بين القبول بها أو الدعوة إلى الانفتاح على مبادرات وطنية تلافياً للتفرّد بالحكم. وفي هذا السياق، جاءت دعوة أحزاب «التكتّل» و«الجمهوري» و«التيار» و«آفاق»، الرئيس، إلى التعاطي الهادئ مع الأزمة، وعدم انتهاج التصعيد، والإسراع في تكليف شخصية برئاسة الحكومة، معبّرين عن قلقهم من دفعه نحو التشنّج، في ظلّ حالة من الشلل تعيشها الدولة. وعن الموقف من الأحكام الانتقالية، عبّرت هذه الأحزاب عن رفضها كلّ الدعوات إلى تعليق الدستور صريحة كانت أو خفية، واصفة إيّاها بـ«التهديد بعودة الاستبداد والحكم الفردي».