رام الله | لا بد من إضاءة سريعة على واقع «الرئيس الفلسطيني المنتظر»؛ فهو سيكون بواقع الحال رئيساً لمنظومة سياسية تقبع تحت الاحتلال ومرتبطة معه باتفاقات أمنية واقتصادية. وعليه أيضاً الحصول أولاً على الموافقة الإسرائيلية – الأميركية، ثم موجة قبول دولية، ولا سيما أوروبية.
هذه الحالة السياسية تبدو كوميدية بطابع أسود؛ فبعد الحصول على موافقة تل أبيب وواشنطن على شخص الرئيس، يُفتح المجال للفلسطينيين لإبداء رأيهم في الموضوع. الأدهى أن الخيار لا يتعلق بكل الفلسطينيين (11 مليوناً في الداخل والشتات)، بل حصراً بالترتيبات الداخلية وصراع النفوذ داخل حركة فتح.
الفلسطينيون أنفسهم يسيرون في ثلاثة خطوط متوازية يصعب التقاؤها: في الجانب الأول، هم يشيّعون شهداءهم في ظل عجزهم عن إيقاف سلسلة الاغتيالات التي خلفت حتى مطلع الشهر الجاري 50 شهيداً، فضلاً عن مواجهة جرافات الاحتلال، للحفاظ على الأراضي من خطر المصادرة، والبيوت من الهدم.
في الجانب الثاني، تستمر جولات المفاوضات التي بدأت منذ تموز 2013، رغم انتكاستها الأخيرة، فوزير الخارجية الأميركي جون كيري لم يملّ السفر من رام الله إلى القدس ثم عمان، علماً بأن الأخيرة أحد أهم عناصر صناعة أي اتفاق مستقبلي في عملية التسوية.
وفي ضوء الأزمة الاقتصادية الواقعة في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، يعيش الناس حالة سباق مع الزمن، من أجل لقمة العيش، وهذا هو الاتجاه الثالث.


على قمة التنبؤات

ويحاول المراقبون التنبؤ بمستقبل السلطة الفلسطينية في حال إخفاق التوصل إلى نتيجة حقيقية في المفاوضات، فما حدث مع الرئيس الراحل ياسر عرفات قد تكرره إسرائيل مع محمود عباس.
بعبارة أخرى، إن حديث وزيرة القضاء الإسرائيلية تسيبي ليفني قبل أيام عن «حصار أبو مازن» يفتح باب التكهن لمستقبله واسم خلفه من بعده. هذا الأمر نفسه جرى الحديث فيه قبل أعوام حين اشتدت الأزمة السياسية على عباس.
كيف يمكن ذلك؟ يشير المحللون إلى إمكانية عقد صفقة للإفراج عن مروان البرغوثي ضمن الدفعة الرابعة التي أجّل الاحتلال إطلاق سراحها. هكذا يصير البرغوثي حراً وتُمهد له الطريق كي يكون الرئيس الجديد للسلطة الفلسطينية، أو ربما منظمة التحرير، بما أنه صاحب خيار عسكري سابقاً.


ماذا يقول مروان؟

البرغوثي كان قد اعتقل منتصفَ نيسان 2002 في عملية لقوات أمنية إسرائيلية اختطفته على متن سيارة إسعاف، ثم نقل إلى مركز التحقيق في المسكوبية في القدس المحتلة، ولاحقاً إلى المعتقل السرّي رقم 1391 ليمضي ما يقارب 103 أيام في التحقيق، لمسؤوليته عن تكوين كتائب شهداء الأقصى التابعة لفتح وإدانته في ما بعد بالشروع في القتل. يقضي البرغوثي الآن حكماً بخمسة مؤبدات وأربعين عاماً.
من سجن هداريم تستمر المقابلات والتصريحات الإعلامية التي من شأنها توضيح المسار السياسي للبرغوثي في حال خروجه من المعتقل إثر صفقة ما.
بعد حادثة اغتيال الشهيد رائد الكرمي، قائد كتائب الأقصى في الضفة، كتب القيادي الفتحاوي مقالة بعنوان (Want Security? End the Occupation)، نُشرت في صحيفة «واشنطن بوست»، ثم موقع الانتفاضة الإلكترونية (22 كانون الثاني، 2002): «أسعى إلى التعايش السلمي بين دولة إسرائيل ودولة فلسطينية على أسس الانسحاب الكامل من خطوط عام 1967، والتوصل إلى حل عادل لقضية اللاجئين وفقاً لقرارات الأمم المتحدة. لا أسعى إلى تدمير إسرائيل. أريد إنهاء احتلال بلدي فقط».
البرغوثي، أو كما عُرف بـ«مهندس انتفاضة الأقصى»، أكمل رسم مسار التحرك السياسي ضد إسرائيل. قال، في مقابلة أجراها معه فريق موقع «المونيتور» (28 أيار 2013): «أدعو إلى استراتيجيّة تعتمد على العودة إلى الأمم المتّحدة للحصول على عضويّة كاملة لفلسطين، على أن تشمل هذه الاستراتيجية الوكالات الدوليّة وتوقيع المواثيق والاتفاقات كافة، والتوجّه إلى محكمة الجنايات الدوليّة، والعمل مع المجتمع الدولي لعزل إسرائيل ومقاطعتها».
وتابع: «أيضاً يجب فرض عقوبات على (إسرائيل) حتى تنسحب إلى حدود 67، وفرض مقاطعة على الاحتلال اقتصادياً وأمنياً وإدارياً وسياسياً إلى جانب تصعيد المقاومة الشعبيّة وتوسيع دائرتها على أوسع نطاق، وانخراط جميع الفصائل والقيادات فيها».
محمود عباس نفسه تلاقى أخيراً مع ما قاله الأسير البرغوثي؛ فالأول وقّع هذا الشهر قراراً يقضي بالتوجه إلى 15 من مؤسسات الأمم المتحدة في خطوة فاصلة في مسار المفاوضات الحالية. هذا التصرف جاء وفق مقربين من الرئيس الفلسطيني، رداً على رفض إسرائيل الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى، وهم يرون فيها تحدياً كبيراً للإسرائيليين والأميركيين الذين طالبوه بتجنب أي خطوات أحادية الجانب.
هذا التلاقي بين أقوال البرغوثي وقرار عباس الأخير يشير إلى اتفاقهما على «ابتزاز إسرائيل بالطرق السلمية»، وهو أقصى ما يمكن أن تملكه السلطة لمواجهة التعنت الإسرائيلي. يضاف إلى ذلك ما يقوله مروان البرغوثي عن المقاومة الشعبية، وهو الأمر الذي تدعمه السلطة وتصفه على الدوام بالمقاومة السلمية. بل إلى أبعد من هذا، فإن الخلاف القائم بين المقاومين الفلسطينيين في مخيم جنين (شمالي الضفة) والسلطة لا يفسر إلا على أنه رفض قاطع من السلطة لاستخدام السلاح ضد الاحتلال.
هنا، يستدرك البرغوثي: «أبو مازن رفض كلّ أنواع المقاومة المسلّحة، وهو يجري تنسيقاً أمنياً غير مسبوق مع إسرائيل! لكن، ما الذي قدّمته إسرائيل إلى الفلسطينيّين في مقابل ذلك سوى مزيد من التهويد وتهجير السكّان والسيطرة على الأراضي والاعتقالات بحق أبنائها، بالإضافة إلى مزيد من الاستيطان، وفي المحصّلة النهائيّة تدمير حلّ الدولتين؟».
رغم هذا الانتقاد، لا يزال القيادي الأسير متمسكاً بحل الدولتين، ولم يشر إلى الأراضي التي احتلت عام 1948، ولم يطالب بتحريرها. هذا كله يأتي على خلاف أصوات في حركة فتح نفسها بدأت تدعو إلى التخلّي عن حلّ الدولتَين بسبب تعنّت إسرائيل ورفضها له، وخيارهم هو «الانتقال إلى النضال من أجل حلّ الدولة الواحدة الثنائيّة القوميّة على أساس المواطنة، وإنهاء نظام التمييز العنصري الإسرائيلي».
هنا تحديداً تبدأ مظاهر الاختلاف؛ فالبرغوثي يشدد على المقاومة الشعبية السليمة في تعبير عن رغبته بـ«النزول من عرش مهندس انتفاضة الأقصى إلى كرسي سياسي يجلب التعايش للفلسطينيين والإسرائيليين». وعلى هذا، لا يمكنه أن يقود انتفاضة فلسطينية ثالثة كما يظن بعض عناصر كتائب الأقصى التابعة لفتح.
كذلك، يغيب عن خطابه مصير 11 مليون لاجئ فلسطيني؛ فهو جعل الحل النهائي للقضية تحويل المواجهة إلى صراع حقوق ومواطنة بدلاً من المقاومة والتحرير. مع ذلك، يصر فتحاويون كثيرون على القول إن «الانتفاضة قادمة في حال خروج مروان وغيّر خطاب المقاومة السلمية، ونجح في لملمة ما بقي من عناصر الأقصى وقلب المعادلة وإعادته إلى موقعه السابق: مؤسس جناح عسكري مقاوم».


الوضع الدولي

إذا خرج البرغوثي وجرى التجهيز له بديلاً من عباس، فقد يكون هناك «تعاطف دولي غير واضح المعالم مع المقاوم الأسير المصمم على حل الدولتين والتعايش».
يكفي لفهم الأمر طرح مثال واحد: من نتائج اللجنة الدولية لحرية مروان البرغوثي إيجابية الموقف الفرنسي الرسمي والشعبي تجاهه، التي ترجمت إلى منحه مواطنة فخرية من عشرين مدينة فرنسية، فيما تغطي صوره العملاقة مباني البلديات، وهو تقليد كان قد اتبعته البلديات الفرنسية سابقاً طوال سنوات اعتقال الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا، في سجون الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
هذا كله يكشف النقاب عن محاولة صنع صورة عن مروان، مفادها أنه قائد له القدرة على الوصول بالفلسطينيين إلى حل نهائي قائم على التعايش بما يشبه النموذج الجنوب الأفريقي. المفارقة أن الخطوة الفرنسية تأتي مع رفض باريس نفسها إطلاق سراح اللبناني جورج عبد الله الذي قضى أكثر من 30 عاماً في سجونها، وقد انتهت مدة حكمه!
عربيّاً، جاء انضمام الأمين العام لجامعة الدول العربية، نبيل العربي، إلى اللجنة الدولية العليا لحرية القائد مروان البرغوثي (أُعلن إطلاقها من زنزانة مانديلا أواخر شهر تشرين الأول 2013)، في سياق ربط شخص مروان بالزعيم الأفريقي الراحل، والخطاب القائم على رفض نظام الفصل العنصري، وتحويل المواجهة في فلسطين إلى قضية خطاب حقوقي دون النظر إلى السياق الاستيطاني للحركة الصهيونية في فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر.

البرغوثي مقابل بولارد

حتى تظهر نتائج المفاوضات، لا يزال السؤال عن مصير البرغوثي وخروجه في صفقة ما معلقاً بين التفاصيل. لكن المتفق عليه أن في السياسة كل شيء ممكن، وليس مستحيلاً أن تعيد إسرائيل تكرار السيناريوات، متجاهلةً الذاكرة العربية.
مع هذا كله، هناك ثلاثة اعتبارات يمكن أن تؤخذ عند محاولة وضع تصور لما قد يحدث: الأول أن خروج البرغوثي قد يكون لدعم موقف عباس وليس بديلاً منه في الوقت الراهن، وهذا لا ينفي إمكانية تقديمه بديلاً لاحقاً، بل إن تأييد مروان أي اتفاق يوقعه أبو مازن يعني أن هذا الاتفاق سيحظى بالقوة استناداً إلى التعاطف الشعبي الذي يملكه البرغوثي داخل فلسطين أو خارجها، وفي حركة فتح نفسها.
ما حدث مع ياسر
عرفات قد تكرره إسرائيل مع محمود عباس


البرغوثي وعباس متوافقان على «ابتزاز الاحتلال بطرق سلمية»

الأمر الثاني أن موقف الرئيس الفلسطيني واضح في ما يتعلق بخيار التسوية، وهذا ما يسهل التحريض عليه على المستوى الشعبي. لكن «البرغوثي نموذج أقرب إلى ياسر عرفات»، أي إن من السهل عليه في حال خروجه وتوقيعه اتفاقية، تصويرها على أنها مقاومة أو انتصار، وهنا يمكن مراجعة الأدبيات التي أظهرت توقيع اتفاقية أوسلو على أنه انتصار فلسطيني.
ثالثاً، دخول قضية الجاسوس الإسرائيلي جوناثان بولارد المسجون في أميركا على خط المفاوضات ومحادثات السلام من شأنه تقليل فرص خروج مروان البرغوثي بصفقة إثر المحادثات الجارية، وقد يكون العكس. ونشر موقع «CNN بالعربية» مطلع الشهر أنه «مقابل الإفراج عن بولارد ستمنح إسرائيل امتيازات للفلسطينيين يمكن أن تتضمن تجميد الاستيطان وإطلاق سراح المزيد من السجناء (من دون الإشارة إلى البرغوثي) إضافة إلى الأراضي التي يتنازع الجانبان حالياً بشأنها والموافقة على استئناف المفاوضات».
في السياق، إن مسؤولين أميركيين سابقين وخبراء اقترحوا على الولايات المتحدة أن تربط بين الإفراج عن بولارد، والتوصل إلى صفقة سلام تشمل إسرائيل والفلسطينيين.
بات من الواضح أن مصير المفاوضات لم يعد مرهوناً بالخطوة التي اتخذها عباس أخيراً (انضمام السلطة إلى 15 منظمة دولية)، بل بتوصل إسرائيل وأميركا إلى اتفاق بشأن قضية بولارد وما سيحمله من «امتيازات هامشية» للفلسطينيين قد يكون أحدها الإفراج عن البرغوثي. ومن وجهة نظر إسرائيلية، يبدو الأمر حمّالاً عدّةَ أوجه؛ فتعقيباً على مقابلة أجريت مع البرغوثي في 26 كانون الأول 2012، ونشر جزء منها في صحيفة «هآرتس»، يقول الصحافي الإسرائيلي، آفي يسخروف: «لا نخطئ حين نقول إن البرغوثي هو عباس، بل هو الذي قال إنه لا يتخلى عن حق العودة، ولا عن منزل أبو مازن في صفد. حتى إنه ليس خائفاً من مواجهة حقيقية مع إسرائيل، كما حذرنا من انتفاضة ثالثة. لا يزال علينا (الإسرائيليين) الانتباه إلى مروان والتحدث معه بسبب الدعم الذي يحظى به بين الفلسطينيين، فهو رغم مرور عشر سنوات على اعتقاله، لا يزال داعماً كبيراً لفكرة دولتين لشعبين».




البرغوثي: الفصائل قصّرت في تحرير الأسرى

اتهم النائب الأسير وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح مروان البرغوثي، الفصائل الفلسطينية بالتقصير في تحرير الأسرى و«عدم الوفاء للعقد النضالي بينها وبين مناضليها». جاء ذلك في ورقة قدمها البرغوثي إلى المؤتمر السنوي الثالث للمركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية بعنوان: «استراتيجيات المقاومة»، وقرأتها زوجته فدوى البرغوثي. وقال مروان البرغوثي، مستنكراً: «لم يحدث أن فاوضت حركة تحرر وطني وأهملت قضية تحرير الأسرى، وتجاهلتها كما في الحال الفلسطينية... وقّعت منظمة التحرير اتفاق أوسلو 1 دون اشتراط إطلاق أي أسير!».
وأضاف: «يوجد في سجون الاحتلال خمسة آلاف أسير، من بينهم أكثر من ألفين محكومين بأكثر من عشر سنوات، و500 أسير محكومين بالسجن المؤبد.. هذه الأرقام محكومية وعددها الأكبر منذ عام 1967».
القيادي الفتحاوي أشار إلى أن إسرائيل اعتقلت منذ اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000 أكثر من 100 ألف فلسطيني من قطاع غزة والضفة الغربية والقدس المحتلة.
في نهاية ورقته، دعا البرغوثي الحكومة والفصائل والمؤسسات ذات العلاقة إلى مقاطعة شاملة ودائمة ونهائية للمحاكم الإسرائيلية المدنية والعسكرية في ما يتعلق بالأسرى على الأقل، «وحظر التعامل معها أو المثول أمامها، وإلزام المحامين هذا القرار الوطني الذي يتوافق مع قرار الحركة الأسيرة».
وطالب القيادة الفلسطينية «باشتراط الإفراج الشامل عن كل الأسرى وفق جدول زمني محدد وملزم للانخراط في عملية تفاوضية، وإطلاق النواب الأسرى واحترام حصانتهم قبل أي مفاوضات».