في عام 1977 تقدم جوناثان بولارد (59 عاماً) بطلب انتساب إلى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، إلا أن طلبه رُفض نتيجة مؤشرات سلبية أظهرها جهاز كشف الكذب تتعلق بصدقيته. لكن الطموح الاستخباري للشاب اليهودي الأميركي قاده بعد عامين إلى الالتحاق بالعمل كموظف مدني في شعبة الاستخبارات التابعة للبحرية الأميركية التي لم تكن على علم باستبعاده من قبل الـ CIA.
ولم يلبث بولارد الذي اعتبره بعض المسؤولين الأميركيين الأخطر من حيث الأضرار التي سببها نشاطه التجسسي للأمن القومي الأميركي، أن حصل في عمله الجديد على تصنيف أمني عالي الدرجة خوله العمل محللاً للمواد الاستخبارية، قبل أن يصار عام 1984 إلى تشكيله في مركز الإنذار المضاد للإرهاب التابع لقسم تحليل التهديدات في مصلحة الأبحاث الخاصة بالبحرية. في العام نفسه، بادر بولارد إلى عرض خدماته التجسسية على ضابط في سلاح الجو الإسرائيلي كان يجري دورة تدريبية في الولايات المتحدة، فكان أن تحوّل الأخير إلى رابط بينه وبين «دائرة التواصل العلمي» في وزارة الدفاع الإسرائيلية، وهي عبارة عن وحدة تجسسية تركز عملها في الدول الصديقة لتل أبيب، وولا سيما الأوروبية.
وخلال عام ونيّف من العمل التجسسي، نقل بولارد نسخاً عن مئات آلاف الوثائق السرية إلى مشغليه لقاء مقابل شهري حُدد بـ 1500 دولار إضافة إلى بعض المجوهرات وعشرة آلاف دولار قدمت له كدفعة أولى. ارتياب زملائه في العمل به أدخل مكتب التحقيقات الفدرالي إلى الصورة. وضع المكتب بولارد وزوجته تحت المراقبة، ومع اكتمال الأدلة على تورطهما بعمل تجسسي، تقرر دهم بيتهما، فما كان من الزوجان إلا أن سارعا قبيل الدهم إلى الفرار باتجاه مبنى السفارة الإسرائيلية في واشنطن ليلوذا بحصانتها الدبلوماسية من الاعتقال. لكن السفارة رفضت السماح لهما بالدخول، ما أدى إلى اعتقالهما على أبوابها من قبل عناصر الـ FBI.
خلال محاكمة بولارد، ادعى أن دافعه إلى التجسس لمصلحة إسرائيل كان تقديم مساعدة الدولة العبرية في مواجهة التهديدات، بعد أن اكتشف أن الولايات المتحدة لا تقدم لها كل المعلومات الاستخبارية التي تسهم في ذلك. وبالفعل، أكدت تقارير أن تل أبيب استخدمت المعلومات التي نقلها بولارد في بعض العمليات الخاصة، وأشهرها قصف مقرّ منظمة التحرير الفلسطينية في تونس في تشرين الأول عام 1985. إلا أن مقالاً نشره ثلاثة أدميرالات أميركيون متقاعدون عام 1998، بينهم رئيس استخبارات البحرية الأميركية إبان فترة عمل بولارد، الأدميرال توماس بروكس، نفى أن يكون الحس القومي الإسرائيلي هو الذي دفع بولارد إلى التجسس لمصلحة تل أبيب. وكشف المقال عن أن بولارد عرض بيع معلومات سرية على ثلاث دول، هي جنوب أفريقيا والأرجنتين وتايوان قبل تجنده للعمل مع إسرائيل، كذلك فإنه حاول الاتصال بعملاء من باكستان وإيران. وفي مقابلة مع مجلة «فورين بوليسي» أمس، رأى بروكس أن الأضرار التي ألحقها تجسس بولارد بالأمن القومي الأميركي هي «في المرتبة الثانية من حيث خطورتها بعد الأضرار التي سببها إدوارد سنودن» الذي سرق ملايين الوثائق الاستخبارية.
خطورة الأضرار التي سببها بولارد، فصّلتها وثيقة من 46 صفحة سلّمها وزير الدفاع الأميركي في حينه، كاسبر وينبرغر، للمحكمة التي مثل أمامها الجاسوس اليهودي، والتي حكمت عليه بالسجن مدى الحياة. على مدى سنوات، تجاهلت إسرائيل أيّ علاقة ببولارد، برغم أنها مولت تكاليف محاكمته. وفي عام 1998 أقرّت رسمياً بأنه كان عميلاً لدى أحد أجهزتها وأعلنت التزامها بقضيته وتحمل المسؤولية الكاملة عنها. برغم ذلك، تعاقبت الإدارات الأميركية على رفض الإفراج عنه، مستندة في ذلك إلى موقف المؤسسة الاستخبارية بهذا الشأن.