رام الله | لا يمكن حصر المعاناة الفلسطينية جراء الاحتلال الصهيوني في جانب واحد، فالأمر أكثر تعقيداً وشمولية، يمتد أثره إلى القطاع الاقتصادي الفلسطيني، الذي أصبح طارداً رئيسياً للعمال الفلسطينيين باتجاه أرباب العمل في المستوطنات الإسرائيلية، وهو ما يجعل المعاناة مضاعفة، إذ لا اقتصاد وطنيا يحويهم، وما من أحد يحميهم من استغلال رأس المال الصهيوني.
حرب عام 1967 تؤسس لاقتصاد تابع ومفكك

الواقع الاقتصادي الفلسطيني المشوه ليس وليد اللحظة، ولا هو ظاهرة موسمية تنتهي بعد فترة وجيزة، بل هو نتاج سياسة اقتصادية بدأت مع احتلال الضفة الغربية عام 1967. السياسة الاقتصادية الصهيونية في الضفة والقطاع بين 1967-1990، بحسب د. ليلى فرسخ (الاقتصاد الفلسطيني واتفاق أوسلو للسلام. 2001) أدت إلى: «تطورين متناقضين» أسهما في إفراز نخبة اقتصادية فلسطينية أسست لشراكة بنيوية بينها وبين النخبة في المشروع الصهيوني. التطور الأول تمثل في تضاعف الدخل الفردي في تلك المرحلة بين عامي 1968-1993، الذي وصل إلى 1450$ في 1993. والثاني هو تدمير القاعدة الاقتصادية المحلية الوطنية عبر إعادة تركيبها وربطها بالاقتصاد الصهيوني من موقع التبعية والاعتماد، وبسبب هجرها باتجاه العمل في الكيان بالنسبة إلى اليد العاملة أو مع الكيان بالنسبة إلى رأس المال. ولهذا؛ فكلما كان الدخل الفردي يرتفع «كانت قدرة الاقتصاد (الوطني الفلسطيني) على الإنتاج، والقدرة على استيعاب قوة العمل والتحديث التقني، تتلاشى». في هذا الوقت، على سبيل المثال، هبطت حصة الزراعة من الناتج المحلي بين عامي 1968-1993، من 34% إلى 13%، فيما لم تمثل الصناعة التي تعد عادة قاطرة تطوير الاقتصاد أكثر من 8% فقط (مقارنة بـ 25% الأردن و32% لإسرائيل).
أما بعد توقيع اتفاقية أوسلو، فأصبح واقع الاقتصاد الفلسطيني أكثر تفككاً؛ ففي عام ٢٠٠٤ بلغت نسبة الأراضي المزروعة ٨٦٪ من جملة الأراضي المصادرة بهدف إقامة الجدار، مما أدى إلى توقف التوسع الأفقي للزراعة، إضافةً إلى محدودية التوسع العمودي كنتيجة لإعاقة دخول المعدات زراعية والأسمدة. أما الإنتاج الصناعي، فقد تسرعت عملية تآكله نتيجة الانفتاح على الاقتصاد العالمي، إذ ذكر تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية حول الاقتصاد الفلسطيني أن «قطاعي الزراعة والصناعة قد انهارا بعد إنشاء سلطة أوسلو، حيث هبطت نسبة إسهامهما في الناتج المحلي من ٣١٪ عام ١٩٩٤ إلى ١٥٪ عام ٢٠١١».
يضاف إلى ذلك، تقسيم الأراضي الفلسطينية إلى ثلاث مناطق أ، ب، ج، والحواجز العسكرية داخلها التي يبلغ عددها حوالى خمسمئة حاجز، فأدى ذلك إلى تفتيت السوق الفلسطينية الصغيرة، مما زاد في محدودية حركة البضائع، فضلاً عن سياسات الإغلاق الكلي والجزئي التي تفرضها إسرائيل، فعلى سبيل المثال أورد تقرير لمؤسسة ماس (١٩٩٧) أن عدد أيام الإغلاق الكلي التي فُرضت على الأراضي الفلسطينية بين عامي 1993 ـ 1996 بلغ ٣٤٢ في غزة، و٢٩١ في الضفة.
أدت تلك التطورات المتناقضة إلى تحسين مؤقت لمستوى دخل بعض الشرائح، وبالتالي أنتجت حالة من الخمول في مقاومة المشروع الصهيوني، لأن ارتفاع مستوى الدخل حدث في سياق استعماري في المقام الأول، وقاد إلى تفكيك وتدمير الاقتصاد المحلي الوطني في المقام الثاني.

مخيمات قطر تنافس مخيمات الضفة

أخيراً جاء إعلان قطر لاستقبال اكثر من 20 ألف فلسطيني للعمل فيها في سياق دعم الشعب الفلسطيني ولتخفيف المعاناة عنه لترسم علامات استفهام حول التوقيت، في ظل مفاوضات السلام بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل وما يحكى عن رفض تل أبيب لمبدأ حق العودة.
القطاع البناء هو القطاع الذي سيوفر الفرص الأكبر للفلسطينيين في المستقبل، حيث صرح وزير العمل الفلسطيني أحمد مجدلاني بأن طبيعة الأعمال التي ترغب دولة قطر في التعاقد معها هي الأيدي العاملة المهنية، وعلى وجه التحديد في قطاع البناء والإنشاءات.
يُعمل في قطر ببعض أشد قوانين الكفالة تقييداً في منطقة الخليج، مما يجعل العمال المهاجرين عرضة للاستغلال والانتهاكات. ما زال العمل القسري والاتجار بالبشر من المشاكل الجسيمة التي تعانيها قطر. وهو ما ورد مراراً وتكراراً في تقارير هيومن رايتش واتش حول العمالة هناك، حيث تؤكد تلك التقارير «أن من الشكاوى الأكثر انتشاراً تأخر تلقي الأجور، أو عدم الحصول عليها، وإخفاق أصحاب العمل في توفير تصاريح العمل التي تثبت إقامة العمال القانونية. قال الكثير من العمال إنهم تلقوا معلومات مغلوطة عن وظائفهم ورواتبهم قبل توقيعهم عقودا في قطر في ظروف تنطوي على الإكراه. ويعيش البعض في مخيمات عمال مزدحمة، لا تتوافر فيها مرافق صحية ملائمة، ولا تتوافر لهم المياه الصالحة للشرب». حتى اللحظة لم يدق أي من المسؤولين الفلسطينيين، أو ناشطي حقوق الإنسان في الضفة الغربية وقطاع غزّة جرس الإنذار جديا للتساؤل عن المصير الذي ينتظر العمال الفلسطينيين الذين فتحت لهم بوابات العمل في قطاع البناء والإنشاءات، هل فتحت لهم بوابات العمل ليجدوا أنفسهم يعيشون في مخيمات تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الكريمة، لكونهم أحد أكثر الشعوب خبرة في التعامل مع تفاصيل حياة المخيمات البائسة!!! كذلك لم يرد أي تصريح رسمي أو غير رسمي حول الموقف الفلسطيني من المشاكل التي يواجهها العمال حالياً في قطر، والتي بالطبع سوف تواجه العمال الفلسطينيين.
تشمل المشكلات التي يواجهها العمال رسوم الاستقدام الباهظة المبالغ فيها، والتي يحتاجون إلى سنوات لسدادها، ومصادرة أصحاب العمل لجوازات سفر العمال كممارسة عامة، ونظام الكفالة القطري المُقيد الذي يمنح أصحاب العمل سيطرة مبالغا فيها على موظفيهم. ربما العلاقات الفلسطينية – القطرية وتبني قطر لآليات مشروع وطني فلسطيني جديد يمنعان الحديث عن المصير المنتظر للعمال.
في هذا السياق يقول السيد أحمد مجدلاني - وزير العمل في حكومة رام الله- في أحد تصريحاته الصحافية عن موضوع ذهاب العمال الفلسطينيين إلى قطر، وعن طبيعة العمل الذي سيقومون به هناك، وعن الأجور ومدة العقود، إن «العمل في قطر أفضل من العمل في المستوطنات الإسرائيلية»، جاء رد الوزير كأنه رد قاطع لا مجال للخوض فيه مجدداً.
كذلك ترى المؤسسة الرسمية الفلسطينية أن العمل في قطر، على الرغم من الانتهاكات الواضحة لحقوق العمال، ومعرفتها الأوضاع والظروف البائسة والمأساوية التي يعيشها العمال الوافدون هناك، أفضل من العمل في المستوطنات الإسرائيلية.
من الجيد أنه حتى الآن لم يخرج أي من المسؤولين ليخطب في الشعب عن أن العمل هناك نوع من أنواع مقاومة الاحتلال الصهيوني.
من يدافع عن

صودا ستريم الإسرائيلية!

هنا يبرز التناغم الواضح بين تصريحات المؤسسة الرسمية والأنشطة الدعائية والتسويقية لحركة المقاطعة لـ «إسرائيل»، التي دعت أخيراً إلى مقاطعة شركة صودا ستريم الإسرائيلية التي يعمل فيها عمال فلسطينيون، ذلك لأن الشركة عام 1996، اتخذت قراراً بجعل موقع مرافق الإنتاج في منطقة واقعة تحت الاحتلال العسكري، وقد حافظت عليها هناك منذ ذلك الحين. وعندما جرت مواجهتها بهذا الانتهاك الواضح للقانون الدولي، اختارت الشركة عدم معالجة ذلك الأمر، وعوضاً عنه استخدمت عمّالها الفلسطينيين لصرف الانتباه عن دورها في الحفاظ على النظام الاستعماري الإسرائيلي الظالم.
على مدونة حركة المقاطعة تقول ستيفاني وستبروك، وهي مواطنة أميركية مقيمة في روما، «إن ما يمكن أن نفعله نحن أصحاب الضمائر الحية المعنية حقاً بالعمال الفلسطينيين وحقوقهم، هو تصعيد حملات المقاطعة لإسرائيل، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها في وجه شركات مثل صودا ستريم، للتأكّد من أننا يمكن أن نحتفل قريباً بالتعددية الثقافية الحقيقية، مع ضمان المساواة في الحقوق للجميع».
هل ستسهم التعددية الثقافية الحقيقية وضمان المساواة في توفير حياة كريمة للعمال الفلسطينيين وعائلاتهم بعد تركهم العمل هناك؟ وهل أُخذ بالحسبان أن نسبة لا بأس بها من هؤلاء العمال، سواء في صودا ستريم أو في مزارع المستوطنات في غور الأردن هم أطفال لم تتجاوز أعمارهم الثامنة عشرة (يعملون بلا تصاريح على عكس العاملين في مصانع صودا ستريم)، حيث تقوم ما يقارب الـ 25 مستوطنة زراعية في الأغوار وتشغل ما يقارب 3000 عامل، حوالى 30% منهم إناث. وهل سيسهم ذلك في إيجاد حل نهائي لمشكلة السماسرة، الذين يعملون على تجنيد عمال (معظمهم أطفال) ودمجهم في العمل والإشراف على عملهم، ودفع أجورهم نقداً. وهكذا يستطيع المشغّل الإسرائيلي في هذه الحالة الامتناع عن التقاء عماله وعقد اتفاقيات عمل خطية واضحة معهم والتزام جملة حقوقهم التي ضمنها القانون.
حركة المقاطعة BDS

لا تؤسس لاقتصاد وطني تحرري

لو افترضنا أن العمال جميعهم تركوا عملهم في مصانع شركة صودا ستريم، وعادوا إلى بيوتهم وقراهم معلنين أنه لا مجال بعد اليوم للعمل في المستوطنات الإسرائيلية، إلى أين سيذهبون، كيف سيسدون رمق أطفالهم الجياع، ويسددون تكاليف تعليمهم المدرسي والجامعي، وما السبيل لهم لحماية أنفسهم من التسول في الشوارع، أو على أبواب وزارة الشؤون الإجتماعية، ومؤسسات الأمم المتحدة.
لا يمكن التعامل مع مسألة العمل في صودا ستريم وغيرها بأسلوب ردات الفعل الموسمية، ودون التفكير جدياً في تأسيس قاعدة اقتصادية وطنية لها القدرة على استيعاب الآلاف المؤلفة من العمال الفلسطينيين العاملين في المستوطنات الإسرائيلية، ودون الوقوف جديا وبصرامة ووضوح أمام الظروف التي دفعت العمال إلى بوابات المستوطنات، رغماً عنهم. قبل الحكم بتجريم العمال، يجب محاسبة النخبة الاقتصادية الفلسطينية التي خلقت واقعاً اقتصادياً مشوهاً، يضمن لها الاستمرار في تدوير الأموال بين فئة محدودة من الناس، وتكديس رؤوس الأموال على حساب رمق أطفال العاملين في المستوطنات الإسرائيلية. تواطؤ النخبة مع الاستعمار الاستطياني الصهيوني هو ما يجب محاكمته ومقاطعته ومعالجته من جذوره. بعد ذلك يمكن الخوض في مسألة العمل في المستوطنات. لا تلوموا العمال ولا تعاملوهم كالمجرمين طالما ليس هناك طرح لمشروع نفض الاقتصاد الفلسطيني المشوه من أساسه، وتأسيس اقتصاد وطني مقاوم قادر على ضم العمال تحت جناحيه ليكونوا أول من يقاوم الاحتلال.
يقول الأستاذ خالد عودة الله، الباحث والخبير في علم الاجتماع: «في «صودا ستريم تنفجر تناقضات الحالة الاستعمارية في فلسطين: بين «النخبة الوطنية» و«الكادحين»، بين العالمي والمحلي، بين من يمارسون النضال كمهنة ومَن المهنة هي نضاله اليومي من أجل الخبز، على العامل المسحوق أن يدفع ضريبة الوطن من قوت أطفاله، بينما تنهب المشاريع الرأسمالية الوطنية الناس، تشردهم من أراضيهم وتمارس الإقطاع الحديث بحق الفلاحين، الذين تستولي على أراضيهم الموجودة في مناطق C والبعيدة عن الخدمات بأبخس الأسعار، ومن ثمّ تستخدم نفوذها عند المستعمرين الصهاينة لتوصيل الطرق والخدمات إليها وبناء مشاريع الإسكان لتبيعها لأولاد الفلاحين أنفسهم بربح فاحش، لا أرى في المقاطعة عملاً وطنياً إذا كانت على حساب المقهورين، ولا أرى في المقاطعة عملاً وطنياً إذا كانت ستسرع في قيام « دولة» للنخبة الوطنية المجرمة والمتعاونة مع الاستعمار، لا تجلدوا عمال «صودا ستريم» وعشرات الألوف من عسكريينا الوطنيين يعملون عند «جيش الدفاع» مخبرين وحماة للمستعمرين، إذا كان لا بدّ من مقاطعة فلتبدأ من هنا». عطفاً على ما سبق، ألا يجب أن تكون إحدى الأولويات الوطنية معالجة قضية الاستحواذ بالقوة على أراضي الفلاحين في المنطقة سي، وإيقاف استغلالها من قبل النخبة الاقتصادية، لبناء مدن سكنية، كمدينة روابي، التي أضحت رمزاً يمثل منظومة استنزاف لأراضي الفلاحين من جهة، ومدخراتهم التي ادخروها جراء تحولهم من مزارعين مالكين للأراضي (بعد بيعها والاستحواذ عليها من قبل مستثمري روابي، أو مصادرتها من قبل قوات الاحتلال) إلى عمال في المستوطنات الإسرائيلية من جهة أخرى. ألم ندرك بعد الحاجة الملحة إلى التخلص من مخبري «جيش الدفاع»، والتوقف عن أداء دور حماة المستعمرين، والانتقال إلى دائرة التأسيس لفعل مقاوم تحرري طال انتظاره.
الدعوة إلى تصعيد حركة المقاطعة ضد «إسرائيل» تعكس إشكالية محاولة BDS افتراض ذاتها كبديل نضالي أوحد أو أساسي، فيما الواقع يؤكد أن هذا غير كاف أبداً، هنا نتحدث عن تفاصيل تتعلق بآليات عمل حملات المقاطعة. حملات المقاطعة حتى اللحظة لم تحاول بناء موقف ما داخل فلسطين. أي كيفية بناء اقتصاد مقاوم وكيفية بناء بدائل للناس، لذلك يبقى الطرح ناقصاً وأشبه بخطاب دعائي موجه إلى العالم الغربي فحسب.




إسرائيل نجحت في ألا يكون لفلسطين اقتصاد

إن الاقتصاد الفلسطيني المشوه نتيجة طبيعية لسياسة اقتصادية صهيونية عمرها 47 عاماً نجحت نسبياً في ضمان أن الفلسطينيين لن يكون لديهم اقتصاد وطني ذو طابع تحرري من شأنه مقاومة الاحتلال وتقويض وجوده. كانت إحدى أهم نتائج تلك السياسة ـــ بحسب د.سيف دعنا- أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدولية، جامعة ويسكونسن- بارك سايد – إعادة تشكيل الشرائح الاجتماعية وربط بعضها ببعض مصلحياً، أحياناً بالقوة، بالمشروع الصهيوني. لهذا فإن خطورة هذه العلاقات على المشروع الوطني الفلسطيني لا تظهر إلا في تحليل بنيوي للحالة الاقتصادية، وفهم للحالة الاستعمارية التي يمثلها الكيان الصهيوني كجملة من العلاقات السياسية، الاقتصادية، الثقافية، لا الاكتفاء بعمل حسابي مكتبي قد يظهر ازدهارا وانتعاشا مؤقتبن على مستوى الدخل الفردي، ويتجاهل خطورة سيادة العلاقات الكولونيالية الوجودية.