في تموز/ يوليو 2017، نشرت «الأخبار» تقريراً عن السودان حمل عنوان «خيبات عمر البشير: أن تبيع أرضك وجيشك بلا مقابل!». يومها، سارعت السفارة السودانية لدى بيروت إلى نشر ردّ في الصحيفة، تحدّثت فيه عن «صدمة للوجدان العربي والسوداني» جراء اتهام الرئيس السوداني، حينها، عمر البشير، بالارتهان للرياض وأبو ظبي وواشنطن، من دون تحقيق مقابل كرفع العقوبات، على رغم الانخراط في الحرب ضد اليمن والزج بعشرات آلاف الجنود السودانيين في معركة ليست معركتهم. حاججت السفارة يومها بالقول إن «اتهام رئيس ــ أي رئيس ــ ببيعه شعبه هكذا دون دليل، جريمة تعاقب عليها الأخلاق والقانون معاً». لم تكن كل القرائن السياسية والعسكرية وإعادة التموضع المدفوع ثمنه «دليلاً» بنظر سفارة «المشير». اليوم، ها هو «الدليل»، أو بعض منه، حاضر بشهادة من فم الرئيس المعزول نفسه. أقرّ الأخير أمام المحكمة بأنه تسلّم لشخصه 90 مليون دولار من السعودية، ومليون دولار من الإمارات، تحديداً من خليفة بن زايد آل نهيان. 60 مليوناً من الـ90 السعودية هي، وفق إقرار البشير، من الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، صرفت جميعها. أما الـ25 مليون دولار الباقية التي وجدت بحوزته، فهي من ولي العهد الحالي، محمد بن سلمان.واقعة محاكمة البشير تُجدّد تلاوة الدرس على عالمنا العربي: ثمة في الخليج أمراء نفط وغاز يَشترون رؤساء دول بالمعنى الحرفي للكلمة، فيما هؤلاء الرؤساء يهيمنون على جيوش دولهم وكرامتها والقرار السيادي فيها بعيداً من حسابات المصالح الوطنية. ليس الرئيس السوداني الأسبق حالة يتيمة. المفيد في درس البشير أن الثمن المقبوض لا تقابله غالباً عوائد حتى من فئة المصالح الاقتصادية والتجارية وبقاء الكراسي. ماذا فعل البشير؟ باع ذمّته إلى المشتري الخليجي بثمن بخس، وفوقها عشرات الآلاف من الجنود الذين رمى بهم متاريس للحدود السعودية وفي ميدي والحديدة وغيرها من صحاري اليمن وجباله وسواحله، يقاتلون الفقراء أمثالهم بلا طائل فيُقتَلون وتدفن جثثهم المكدسة في البراري بلا حرمة يراعيها السعودي. لم يتحسّن اقتصاد السودان، لم يخمد الغضب الشعبي لسوء الحال حتى هزّ عرش البشير، كذلك لم ترضَ واشنطن بهذا القدر من الانبطاح، ولم ترفع عقوباتها الظالمة، ومن ثم باعه الخليجيون عند أول مفترق.
خيبة البشير المكتملة وهو خلف القضبان تبدو نتيجة «عادلة» لجرائمه بحق شعبه وبحق اليمنيين. لكن المؤسف أن نتائج رهانات الرجل الذي لطالما عرف بتقلباته ولعبه على حبال التناقضات وغدره بالحلفاء، لم يزل السودان يدفع ثمنها غالياً إلى اليوم وحتى أمد غير معلوم. المشكلة أن من عزل البشير ويحاكمه اليوم إنما يفعل ذلك من منطلق أن تكون هذه الملايين من العطايا ـــ الرشى له لا للبشير. أما نزف الدم السوداني، فنقرأ أمس أنه مفتوح على مزيد من الاستثمار، مع خبر نقل 30 ألف جندي سوداني من جبهات اليمن الداخلية إلى الحدود الجنوبية للسعودية ليكونوا أكياس رمل ودروعاً لجند آل سعود المترفين.
رحل البشير، وبقيت ظلال رهاناته الخائبة تركة قاسية تخيّم على بلاد النيل، حيث جنرالات على شاكلة «المشير» يسندون ظهورهم إلى أمراء النفط، لا إلى شعبهم، يمسكون باللعبة ويقفون سداً أمام مطالب القوى الشعبية التي لا يخفي كثير منها الرفض المطلق للارتهان للإمارات والسعودية والتورّط في اليمن، في شعارات رفعت إبان الحراك. لا شك في أن لخيارات السودان السابقة التي لا ينكر فضل البشير فيها، ثمناً من عقوبات وضربات. فـ«يد إسرائيل الطائلة» التي تحدّث بالأمس عنها بنيامين نتنياهو، ضربت السودان يوماً جراء دعمه لقوى مقاومة إسرائيل. لعل «المشير» اليوم وهو في سجنه يردد أن ذلك «الثمن» كان أقلّ بأضعاف وأخفّ كلفة من خاتمة التقلبات الخائبة.