تونس | لم تكن زيارة ماتيو سالفيني هادئة. مهد الرجل لها بتصريحات أثارت جدلاً واسعاً منتصف هذا الشهر، بالقول إنه سيتوجه إلى تونس ليكتشف سر قدوم 4 آلاف مهاجر منها هذا العام، على رغم «عدم وجود مجاعة أو حرب فيها». استغراب سالفيني من تدفقات المهاجرين، واجهه التونسيون بسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، فيما ندد آخرون بحديثه، إلى حد توجيه «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» رسالة مفتوحة إليه، تحمل احتجاجاً على سياسة حكومته تجاه المنظمات العاملة على إنقاذ المهاجرين، التي كان من بين آخر نتائجها، احتجاز بحارَين تونسيَين، تمهيداً لمحاكمتهما بتهمة «التواطؤ» مع المهربين، بسبب إنقاذهما قوارب مهاجرين في عرض البحر.لم تجد قضية البحارَين صدىً لدى السلطات التونسية، على الأقل خلال اجتماع وزير الداخلية التونسي، هشام الفوراتي، ورئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، مع الوزير الإيطالي. كل ما نتج منهما، يصب في تمتين نفس السياسة المتبعة بين البلدين منذ زمن بعيد، والتي ازدادت تشدداً عام 2011، فحينها، ومع وصول حوالي 25 ألف مهاجر تونسي إلى سواحل إيطاليا، عقب هروب الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وقعت تونس وإيطاليا اتفاقية تسمح بإعادة المهاجرين، وهي الاتفاقية الوحيدة من نوعها التي تجمع البلد الأوروبي بأحد بلدان جنوب المتوسط.
وكالة «آكي» الإيطالية، نقلت عن سالفيني قوله: «نحن هنا من أجل إحراز بعض التقدم، وليس للرجوع خطوات إلى الوراء». والمقصود بعبارة «تقدم» هنا، «إيقاظ الاتحاد الأوروبي من غفوته تجاه تونس»، من الناحية الأمنية حصراً! إذ «سيصل زورقا دورية من الحكومة الإيطالية، وستصل أربعة زوارق أخرى تباعاً». ذلك بحسب سالفيني، الذي يتزعم حزب «الرابطة» اليميني (رابطة الشمال سابقاً)، يندرج ضمن عمل «كل ما في وسعنا في ما يتعلق بالأجهزة والتدريب، كي نجعل الاتفاقيات بين إيطاليا وتونس أكثر فاعلية». لكن سالفيني «الجريء»، كما يوصف غالباً، لم يترك تصريحاته ذات الطابع الأمني الفج من دون تزيين. تحدث الرجل عن سعادته بـ«المساهمة في الاستقرار في تونس... وبإقرار موازنة في إيطاليا تعطي أملاً ومستقبلاً وفرص عمل للشباب». ويُقصد بالحديث هنا، برامج العمل المنظم، التي تضعها إيطاليا في مصلحة العمال التونسيين، لكن هذه ليست أمراً جديداً، فهي موجودة منذ أعوام، كما أن التجربة تعلمنا أنها مجرد برامج دعائية، فهي لا توفر واقعياً سوى فرص عمل لبضع عشرات من الناس فقط! وهنا مربط الفرس في ما يتعلق بدوافع الهجرة الذي يتجاهله المسؤول الإيطالي. من الصائب أنه لا توجد في تونس حرب أو مجاعة، لكن يوجد حوالي مليون عاطل من العمل، ثلثهم تقريباً من أصحاب الشهادات الجامعية، الذين سُدت آفاق الحياة أمامهم في بلدهم.
برامج العمل المنظم التي تضعها إيطاليا دعائية لا تنعكس على أرض الواقع


في واقع الأمر، لا ترتبط الهجرة بهؤلاء فقط، إذ غادر تونس منذ سبع سنوات، عشرات آلاف المتخصصين، مهندسون وأطباء وكوادر شبه طبية وغيرهم. لكن هؤلاء هاجروا عبر طرق منظمة، وهم يمثلون فئات «مرغوب فيها أوروبياً»، تكلف تكوينهم على تونس عشرات آلاف الدولارات، ويمثلون خسارة لتونس.
تكشف هذه الحقيقة البسيطة «النفاق الأوروبي». هم يريدون خيرة من لدى تونس، أما البقية، فـ«زائدون عن الحاجة»، ويجب جعل تونس سجناً كبيراً، محصناً بشكل جيد، حتى لا يغادروها.
وسط هذه الأجواء، يبدو، بحسب تسريبات وسائل إعلام تونسية، أن رئيس الحكومة يوسف الشاهد، رفض استقبال سالفيني، بسبب تصريحاته السلبية، التي انطلق في ترديدها منذ تسلمه منصبه، إذ قال في اجتماعٍ في جزيرة صقلية، إن تونس «لا ترسل لنا أفضل ما لديها، بل ترسل خريجي سجون»! لكن الأنباء عن رفض اللقاء لم تتأكد حتى الآن، بل قالت مصادر إيطالية، إن سالفيني لم يخطط أصلاً للقاء الشاهد. وفي حال صحة الخبر، فإنه يجب قراءته في إطار الصراع بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وانطلاق الأخير في بناء مشروع سياسي خاص، بعيداً من حركة «نداء تونس»، التي جمدت عضويته أخيراً، وأحالته إلى لجنة النظام.
بأي حال، يعتبر رد فعل الشاهد المفترض، من نفس طبيعة تصرفات سالفيني. وهذا النوع من السلوك، أمر يستحق التوقف عنده، فهو غير معتاد من النخب السياسية المتشكلة بعد عام 2011، والتي تنقاد عادةً وراء الأوروبيين في شكل شبه تام ومن دون مساءلة، على عكس بن علي، الذي أبقى على مساحات مناورة في العلاقات معهم. ولا يجب أن ننسى هنا، أن من وقع اتفاقية إعادة المهاجرين، قبل سبعة أعوام، هو قائد السبسي نفسه، الذي ترأس في حينها الحكومة في شكل مؤقت.
في الواقع، لم يكن هذا التوجه بعيداً من سياسة يوسف الشاهد منذ توليه المسؤولية قبل نحو عامين، وإن لم يعبر عنه إلا في شكل خجول. من ذلك مثلاً، تحدثه بالعربية عقب لقاء جمعه بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس، وهي خطوة حساسة في السياق التونسي، ولم يقدم عليها حتى الرئيس السابق منصف المرزوقي، الذي يصف نفسه بأنه «عروبي التوجه». وقد يمثل هذا السلوك، الذي وصفه البعض بأنه «شعبوي»، أحد أركان مشروع الشاهد السياسي، الذي لم تتبين جميع ملامحه بعد.