رام الله ــ الأخبارلا عجب في أن يترك أحمد نصر جرار هذا الأثر وراءه عند رحيله، فلم يصدق كثيرون من الفلسطينيين النبأ لحظة وروده صباح أمس، وصاروا أشبه بـ«اليتامى» عند مواجهة لحظة الحقيقة؛ الشهيد أحمد لم يكن مقاوماً فحسب، بل أخذ القرار عن مئات الألوف من الذين يؤمنون بالمقاومة، وتحديداً المسلحة. لذلك، ليس غريباً أن يشعر هؤلاء بشعور الأم عندما تُكذّب الفاجعة في فلذة كبدها عند الساعات الأولى، لكن، لماذا شكّل جرار «استثناءً» يتشابه مع ما فعله الشهيد باسل الأعرج قبل نحو عام. وثمة سؤال آخر مبكر: لماذا لم يمكث مطارداً أكثر من 20 يوماً؟

في الانتفاضتين الأولى والثانية، كانت البيئة المحيطة بالمقاومين المطاردين في الضفة مواتية أكثر لينجحوا في التملص من فخاخ العدو لأشهر طويلة وأحياناً لسنواتٍ. وبالنسبة إلى الانتفاضة الأولى، لم تكن تقنيات العدو متطورة مقارنةً بالآن، وكانت طبيعة الحاضنة الشعبية أشد تماسكاً، ولم تتلوث بالمال السياسي والتوظيف، كما لم يكن الفلسطيني مشغولاً بلقمة عيشه كثيراً، على عكس الحاضر الذي شهد انتشار ثقافة الإحباط عن المقاومة، ومردّ ذلك بالدرجة الأولى تحوّل فصائل كثيرة وأفراد من «الثورة» إلى «الوظيفة». حتى من بقي حياً من مناضلي الانتفاضتين هم الآن إما في سجون العدو، وإما تحت الأرض في القبور، وإما حصدوا مكافأتهم بوظيفة «تقاعد عن النضال»، أو فتّشوا عن عمل ذاتي له بعد حرمانه وظيفة مثل غيره. كل هؤلاء ربّوا على ما حصدوه أجيالاً لاحقة، فأصبحت مفاهيم المقاومة والنضال بالنسبة إليهم مجرد «تذكرة عبور لكثيرين على أجساد الفقراء». فعزفوا عن المقاومة، وتوسعت الأنانية والمصلحة الشخصية، الأمر الذي خلق جيلاً مشوهاً يفكر في لقمة عيشه ومستقبله الشخصي عدا استثناءات محدودة.

يستنزف وجود
عشرات المطاردين جهد إسرائيل، لكن أحمد كان وحيداً

أما الانتفاضة الثانية، فكانت وتيرة المطاردة فيها أشد سخونة، وأعداد المطلوبين من المقاومين بالعشرات في كل مدينة وريفها، والمقاومة كانت تمتلك شبكة علاقات تنظيمية متسلسلة، منها توفير الدعم اللوجستي نسبياً للمطاردين، إلى جانب وجود مجموعات من المسلحين غير المطاردين في ظل وجود حاضنة شعبية قوية. وعلى قدر وجع عملية «السور الواقي»، فإنها جعلت صفوف الفلسطينيين أكثر تماسكاً وتلاحماً مع المقاومين. بعد هذه الانتفاضة، تشكّل نموذج «الفلسطيني الجديد» بإشراف أميركي، وأصبح التنسيق الأمني يسير أفقياً ويتخذ حالة التواصل الدائمة والتعاون، الأمر الذي أدى إلى تضييق الخناق وملاحقة المقاومين. أما إسرائيل، فسعت خلال الانتفاضتين وبعدهما إلى فرض المزيد من القيود على الفلسطينيين في معيشتهم، وصحيح أنّ عمال الضفة والقدس كانوا يمارسون مهنهم داخل الأراضي المحتلة عام 48 في الانتفاضة الأولى، لكن العدو سعى إلى مضاعفة أعدادهم لاحقاً، ما يعني أن معيشة القسم الأكبر من الفلسطينيين ربطها العدو بيديه، فصار يتحكم بها كيف يشاء.
من جانبٍ آخر، كانت ظاهرة المطاردين قديماً تتخللها مناخات مواتية، فالفلسطينيون أعرف الناس بأراضيهم وبلادهم ومعالمها التضاريسية من جبالٍ وسهولٍ ومغارات، على عكس العدو الذي كان لا يزال يتلمّس في الظلام ويستفيد من تجاربه في التعرف إلى الملامح المجهولة من طوبوغرافيا الضفة. وجراء هذه التجارب، صقل العدو آلية التعامل معهم، وعزّز قدرة اكتشافهم بسرعة كبيرة. وفي موازاة ما سبق من الحقائق المرّة، يتطور العدو تقنياً وبشرياً واستخبارياً كل سنة، فضلاً عن غياب ثقافة توعية وطنية للفلسطينيين، فلا تعبئة فكرية تمارسها الفصائل بعكس أيام الانتفاضتين الأولى والثانية، وحتى قضية مثل كاميرات المراقبة الفلسطينية على الشوارع التي تسبب انكشاف المطاردين لم تحلّ بعد.
رغم كل ما سبق، ظهرت بصمة أحمد جرار في عملية «حفات جلعاد» قرب نابلس لتثبت أن المقاوم يمكن أن يعمل في الظروف المستحيلة، ويستطيع تخطي كل الحواجز في ظل المراقبة الأمنية الشاملة، كما بدا جلياً حجم التفاعل الفلسطيني مع جرار أثناء مطاردته، وهو ما يؤشر على أنه تحوّل إلى رمز أو «أسطورة»، كما توقع بعض محللو الصحافة الإسرائيلية. ونجاة المطارد أكثر من مرة جعلته بطلاً شعبياً، واستعاد الفلسطينيون صورة مقاومين كثيرين إلى ذاكرتهم الطويلة، إذ كان جرار ينجح مثلهم في الانسحاب والاختفاء عن الأنظار، لكن الفرق أن الأخير لم يتمكن من الاختفاء لسنوات أو حتى شهور. ويسجل لأحمد نجاح لافت على عدة أصعدة، ابتداءً من انسحابه من منطقة عملية الحاخام الأولى التي تقع ضمن طريق استيطاني وتحت مراقبة مشددة، إضافة إلى نجاته مجدداً بعد أيام من عملية القوات الخاصة في واد برقين، وكذلك نجاته لاحقاً عدة مرات خلال حملات الدهم الأخيرة المفاجئة في قرى وبلدات جنين.
مدة الأسبوعين الأخيرين ليست قصيرة في حياة المطاردة بالنسبة إلى جرار، فالضفة مستباحة وتحت عين العدو، وهو المطارد الوحيد ويسعى وراءه جيش عريض وأجهزة استخبارات متعددة، على عكس الانتفاضات السابقة، إذ كان عشرات المطاردين يشتتون الجهود الاستخبارية الإسرائيلية. أيضاً، لمنطقة جنين خصوصية كبيرة عدا خلفيتها المشبعة بالمقاومة، وذاكرة أجيالها التي تحتفظ بذكرى معركة نيسان 2002 كملحمة أسطورية، فهي تمتاز بخلّوها من المستوطنات الإسرائيلية، عدا منطقة مستوطنة ومعسكر «دوتان» قرب بلدة يعبد، وهذا ما أفسح المجال أمام الشهيد جرار للتحرك وجعل مطاردته تطول نسبياً. أما في باقي الضفة، فالمستوطنات تنتشر في محيطها وعلى مداخل البلدات الفلسطينية القريبة منها منظومات مراقبة متطورة لحماية للمستوطنين.
لكن مع التفاعل الواسع مع أحمد نصر جرار، لماذا تعيش الضفة حالة ركود ولا يخرج منها سوى أشخاص يضعون بصمات دامغة ما بين مدة وأخرى؟ الإجابة تتلخص في أن «كثيرين يصفقون للمقاومة، لكن قليلين من هم على استعداد لدفع الثمن ويخشون الدفع»، كما يقول عدد من الناشطين، وهذا يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة عن التعبئة الفكرية والوطنية ودور الفصائل الغائبة أو المغيبة في الضفة.