لم تكن «وثيقة حماس» مفاجئة في صياغاتها وتوجهاتها وما حاولت أن تعدله من هويتها.على مدى زمني طويل نسبياً تبدت إشارات وتسريبات عن قرب إعلانها تقبّل إعلان دولة عند حدود الرابع من يونيو عام ١٩٦٧ وفك ارتباطها التنظيمي بجماعة «الإخوان المسلمين».
دون التباس، الوثيقة رسالة واضحة بـ«أننا جاهزون» أن نكون طرفاً رئيسياً مباشراً في أية مفاوضات محتملة يتبناها الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

الصياغات الملتبسة لا تنفي الحقائق الماثلة وتوقيت إعلانها قبل زيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى البيت الأبيض بثماني وأربعين ساعة ليس محض مصادفة.
هكذا الأمور على حقيقتها، إعادة تأهيل لدخول مضمار «عملية التسوية!» رغم أنها وصلت إلى طريق مسدود وإخفاقاتها دأبت الحركة على انتقادها على مدى عقود، كأنها تضرب في شرعيتها دون أن تتضح معالمها الجديدة.
اللعبة بدأت ولا أحد بوسعه أن يجزم إلى أين تمضي أقوى حركة مقاومة مسلحة فلسطينية.
هناك لاعبان إقليميان وراء ذلك التطور ـ تركيا وقطر، الأولى أعلن وزير خارجيتها قبل فترة قصيرة عن تأهب حماس لتقبل دولة فلسطينية عند حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧، والثانية استضافت المؤتمر الصحافي في الدوحة، كما أن هناك لاعبين آخرين في الإقليم والعالم تابعوا المشهد ويترقبون ما بعده.

«حل الدولتين» يكاد
أن يكون وهماً آخر بافتراض التوصل إليه


لمثل تلك التحولات الدراماتيكية فواتير واستحقاقات.
كألعاب الدومينو سوف تتساقط أحجار كثيرة والعبرة بالممارسات قبل الوثائق.
بصورة ما حاولت «حماس» بصياغات ملتبسة أن تزاوج بين إرثها السياسي وواقعيتها الجديدة حتى تتجنّب الاتهام بأنها انقلبت على نفسها ونفت هويتها كحركة مقاومة.
لقد أكدت على أغلب الأدبيات التقليدية التي ارتبطت بها على مدى ثلاثين سنة، فلا اعتراف بإسرائيل واتفاقات أوسلو ولا تخلي عن السلاح، وأن كل ما طرأ على أرض فلسطين من احتلال أو استيطان أو تهويد أو تغيير للمعالم أو تزوير للحقائق باطل، لكنها افتقدت روحها وبدت عبارات معلقة لا سياسات متبعة.
كان ذلك خطاباً تبريرياً أمام قواعدها وأنصارها لم يعره أحد في العالم اكتراثاً كبيراً، فتجربة التاريخ تثبت أن هناك مساراً إجبارياً يأخذه هذا النوع من الواقعيات السياسية التي تطلب شرعية ما من الآخرين، فبعد كل تنازل ضغط جديد وتطويع إضافي.
من المواقف الجديدة الدالة دعم المبادرة العربية للسلام التي تعني بالضبط التطبيع الكامل بين الدول العربية وإسرائيل مقابل الانسحاب الشامل من الأراضي العربية المحتلة منذ عام ١٩٦٧.
لا أحد عاقلاً ـ في الموازين الحالية والحقائق التي تتحكم فيها ـ يتوقع مثل هذا الانسحاب، وما هو معروض الآن تطبيع بلا ثمن.
لماذا تقدم حماس على هذه الخطوة شبه المجانية؟ إنها محاولة لتخفيف الضغوط الدولية والإقليمية عليها وسعياً للاعتراف بها كلاعب فلسطيني معتمد في أية تحركات سياسية مقبلة.
إعلان القبول بدولة على أراضي ما قبل ٥ يونيو ١٩٦٧ مجرد خطوة أولى، وأي كلام آخر خداع للنفس.
لا شيء مستبعد، هكذا قواعد اللعبة التي خبرها العالم العربي منذ أول اتصال سرى بإسرائيل. في عام ١٩٨٨ انزلقت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية باسم الواقعية السياسية من إعلان الاستقلال من طرف واحد في الجزائر إلى تفريغ قضية الاستقلال من أيّ معنى تحرري والانخراط في مفاوضات واتصالات ـ علنية في مدريد وسرية في أوسلو ـ أفضت إلى «سلام بلا أرض» بتعبير المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد.
وقد كانت مفارقة كبرى أن سعيد شارك بأدوار جوهرية في التمهيد لإعلان «وثيقة الاستقلال» قبل أن يُصاب بخيبة أمل في الحصاد الأخير.
عندما صاغ محمود درويش بإلهام الشعر ورفعة اللغة وثيقة الاستقلال كانت منظمة التحرير الفلسطينية ما زالت تحتفظ بقوة تمثيلها للشعب الفلسطيني، وجاءت الصياغة تعبيراً عن توافقات وتفاهمات بين فصائلها، وذلك لا وجود له الآن.
الأخطر أن المنظمة نفسها أطلال ماض انقضى، فلا هي بيت فلسطيني جامع لوحدة الشعب والقضية، وكان آخر دور لعبته التوقيع باسمها على أوسلو.
لإحياء المنظمة ضرورته لكن ليس بالطريقة التي تحدثت بها حماس في وثيقتها عن الحفاظ عليها والعمل على تطويرها.
لا معنى لمثل هذا الكلام الفضفاض إذا لم يتوقف الانقسام الفلسطيني وتدمج تحت أفق سياسي واحد القضية وشعبها في غزة والضفة الغربية وعرب ١٩٤٨ واللاجئون في المنافي والمخيمات.
أسوأ استنتاج ممكن من ذكر منظمة التحرير الفلسطينية في سياق الظروف الحالية أن تكون قيادتها موضوع نزاع جديد بين «حماس» و«فتح» ـ أيهما أكثر استعداداً للوفاء بمهمة تسلم الدولة دون أن تكون هناك دولة لها ملامح وحدود وعندها جيش وسيادة.
لا يوجد مؤشر واحد على ما يسمى «الشريك الإسرائيلي» في التسوية، بينما التنازع على الوهم مطروح داخل الفلسطينيين.
كما أن «حلّ الدولتين» يكاد أن يكون وهماً آخر بافتراض التوصل إليه، فالجزء الأكبر من الضفة الغربية تآكل بالاتساع الاستيطاني وأعداد المستوطنين وصلت إلى نحو ٨٠٠ ألف إسرائيلي.
أقصى ما يمكن أن يفعله «الراعي الأميركي المفترض» طلب التمهل في التوسع الاستيطاني، ولا شيء أكثر.
هل هي «دولة غزة» مع بعض أجزاء من الضفة الغربية مع اقتطاع جزء من سيناء المصرية وفق صيغة تبادل أراض؟
مصر ترفض، وليس بمقدور أحد فيها أن يتساهل أو يقايض على أراضيها... و«حماس» على لسان رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل تعلن رفض أي مشروع لوطن بديل. لا شيء واحد ممسوك في كل الحديث الملتبس والغامض عن «صفقة القرن» والتسوية المنتظرة.
ما معنى إعادة التأهيل إذا لم يكن انزلاقاً إلى تنازلات أفدح باسم الواقعية السياسية تتجاوز كل الخطوط الحمراء وكل العبارات الملتبسة في وثيقة «حماس»؟
كما أن نأي الحركة عن جماعة «الإخوان المسلمين» لا يعبّر عن مراجعة فكرية وسياسية بقدر ما هو استجابة لضرورات الانفتاح على مراكز إقليمية ودولية عديدة، بينها مصر.
كان لافتاً والحركة تعلن نأيها عن الجماعة أن بعض وجوهها المعروفة متواجدة في المكان. ومشعل يؤكد في السياق نفسه أن الحركة تنتسب إلى المدرسة الفكرية للجماعة الأم ولا تتنكر لها والسهام تنهال عليها.
لأسباب عملية، قبل أن تكون فكرية، أعلنت الحركة هذا النأي، وكل احتمال على المحك.
في تعريف هويتها قالت الوثيقة: «إن حماس حركة وطنية فلسطينية بمرجعية إسلامية هدفها تحرير فلسطين بكل أشكال المقاومة وأدواتها بما فيها الكفاح المسلح».
التعريف فضفاض، وهو بدوره على محك التطورات المقبلة.
ما هو حاسم في النظر إلى الوثيقة الجديدة مدى التحولات في سياسات «حماس» وإلى أي مدى سوف تنزلق؟
إذا تبارت الفصائل الفلسطينية في أياها أكثر مرونة واستعداداً لتقديم التنازلات كي تكون الشريك المعتمد في أية صفقة منتظرة، فإن كل شيء سوف ينهار وتضيع أعدل القضايا إلى الأبد.
*كاتب وصحافي مصري