«الجوع كافر ـــ كتب أحد الناشطين بالأمس على تويتر ـــ إلا في فلسطين، فالجوع ثائر»! اثنا عشر يوماً والأسرى الأبطال في سجون الاحتلال يشهرون «أمعاءهم الخاوية» في مواجهة غطرسة الإسرائيلي ووحشيّته. اثنا عشر يوماً وسط تجاهل الضمير العربي المشلول، الغارق في مستنقعات الخيانة والاستسلام والتفتت، برعاية إسرائيليّة معلنة.
الضمير العربي الذي عطّلته حروب أهليّة عقيمة، تُحرَّك خيوطُها من واشنطن وتل أبيب، ويروِّج لسمومها إعلامٌ غربي يريد نفسه «حرّاً»، فيما يتساوى في التزوير مع أبواق الانحطاط والرجعيّات الخليجيّة. وحدها فلسطين، في زمن الردّات والاستقالات والانهيارات، تضيء كنجمة القطب ليلنا الدامس، وتدلّنا إلى الطريق. وحدها حفنة من الأبطال، تقاتل من أجل كرامتنا القوميّة والإنسانيّة المعلّقة. قرابة ألف وخمسمئة أسير بدأوا يوم 17 نيسان (أبريل) جولة جديدة من «إضراب الكرامة»، وأجبروا حتّى محمود عبّاس على تبنيه على مضض.
اثنا عشر يوماً والمعركة في بداياتها. يوم أمس، إلتحق بالمضربين فوج جديد، «وفق برنامج متفق عليه وطنيّاً»، بينهم الأسير سامر العيساوي صاحب أطول إضراب عن الطعام (277 يوماً) في عام 2012. ووجّه العيساوي، عضو اللجنة المركزيّة لـ «الجبهة الديمقراطيّة لتحرير فلسطين»، رسالة إلى شعبه وإلى الرأي العام، أعلن فيها أن «الساعة الصفر باتت على قاب قوسين أو أدنى، ونحن الأسرى موحدون في القرار، مصممون على الذهاب إلى النهاية في إضراب الحرية والكرامة». وقد أعلنت الفعاليات الوطنية في المدن الفلسطينية اليوم الجمعة «يوم غضب». فيما دعا أحمد سعدات الأمين العام لـ «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، دعا سائر السجناء للانضمام إلى الاضراب. ويتوقّع، بعد يوم الإضراب الشامل أمس الذي أخلى شوارع الضفّة المحتلّة من الناس، أن تتصاعد الهبّة الشعبية في أنحاء الضفة الغربية كافة، على أن تبلغ ذروتها يوم 15 أيار (مايو) المقبل، في الذكرى التاسعة والستين لنكبة فلسطين. وبشّر سعدات بأنّه «سيكون يوماً مشهوداً في تاريخ نضال الشعب الفلسطيني».
اثنا عشر يوماً، لهذه المواجهة الرابعة والعشرين مع الوحشيّة الإسرائيلية في سجون فلسطين المحتلّة، منذ عام 1967 (أول إضراب جماعي نفّذ عام 1968 في سجن نابلس). مواجهة طويلة، دفع ثمنها خمسة أسرى استشهدوا في خلال الإضراب عن الطعام، نستعيدهم اليوم بإكبار: عبد القادر أبو الفحم في سجن عسقلان (1970)، وراسم حلاوة وعلي الجعفري في سجن نفحة وإسحق مراغة (1980، الأخير استشهد متأثراً بجراحه بعد 3 سنوات)، ومحمود فريتخ في سجن جنيد (1984)، وحسين نمر عبيدات في سجن عسقلان (1992). كما نستعيد اليوم معركة «الأمعاء الخاوية» المدوّية التي اندلعت عام 2012. المطالب هي نفسها، بدءاً بوقف سياسة الاعتقال الإداري والعزل الانفرادي، وصولاً إلى السماح للأهل بالزيارة من دون وجود عازل… وقبل أيّام، قرب قضبان الأسرى المضربين عن الطعام، من أجل ظروف «اعتقال» أقل وحشيّة، قام المستوطنون بشواء اللحم والاحتفال. فيما عمد السجّان الإسرائيلي إلى مصادرة الملح الذي خبّأه الأسرى، ليساعدهم في إضرابهم إلى جانب الماء، ويكون ذخيرة معركتهم الشجاعة ضدّ آلة القمع والاحتلال العملاقة الغاشمة. ردّ فعل سلطات الاحتلال في وجه المضربين هو مضاعفة وحشيّتها المعهودة، إذ عزلت المضربين عن العالم الخارجي، ومنعت عنهم حتّى زيارة المحامين. لكن الإسرائيلي ضعيف وجبان وخائف، وهو يعرف في قرارة نفسه أنّه الخاسر عاجلاً أو آجلاً.
اثنا عشر يوماً، وليس لهؤلاء الأبطال العزّل إلا كرامتهم الإنسانيّة وعزّتهم الوطنيّة. ليس لهم سوى أجسادهم وإرادتهم وتصميمهم وتضامنهم على اختلاف الفصائل والانتماءات والعقائد. لكن، ربّما أمكننا أن نضيف شيئاً من الدعم والتضامن الذي لا يكلّف شيئاً، في مدننا وبلداتنا العربيّة القابعة على البركان نفسه والتي تخوض معركة المصير نفسها من أجل الحريّة والعدالة والكرامة، والحقوق الوطنيّة والقوميّة. على «تويتر» أيضاً علّق الناشط: «أنا من مواليد عام 1987، وكريم يونس وماهر يونس عمداء الأسرى الفلسطينيين معتقلون منذ عام 1983». ونقرأ: «الأسير عبدالله البرغوثي محكوم 67 مؤبداً و5200 سنة: إنه صاحب أطول حكم في التاريخ». وأيضاً: «الأسير أحمد كعابنة يدخل عامه العشرين في سجون الاحتلال، وهو محكوم بمؤبدين وست سنوات». هؤلاء لا يطلبون شيئاً لأنفسهم، نحن من نحتاجهم وليس العكس. نحن نحتاج إلى الاستيقاظ من هذا الخدر الذي يشبه الموت. لنفكّر بكل منهم، فرداً فرداً، بأهله وعائلته، في قلب هذه المعركة الشرسة، ونحن نستقوي بكلمات محمود درويش التي ختم بها السينمائي برهان علويّة فيلمه الشهير «كفرقاسم»: «إنني عدت من الموت لأحيا، لأغني/ فدعيني أستعرْ صوتي من جرح توهّج/ وأعينيني على الحقد الذي يزرع في قلبيَ عوسج/ إنني مندوب جرح لا يساوم/ علّمتني ضربة الجلاد أن أمشي على جرحي/ وأمشي…؟ ثم أمشي…/ وأقاوم!».