جاء إعدام تنظيم «داعش» للرهائن الأقباط صادماً للجمهور المصريّ، ليس بسبب الطريقة التي اتُّبعت عبر الذبح الجماعي الاستعراضي، أو بسبب طريقة التصوير السينمائية للإعدام، ولكن أيضاً لأن الإعدام قد جرى في وقت كان فيه «داعش» قد ترك المصريين أسرى لوهم الاعتقاد بأنه يمكن بالفعل الاستيقاظ من هذا الكابوس وإنقاذ حياة الرهائن. هذه نقطة مهمة في الحقيقة وليست مجرد مصادفة، بل هي تكتيك متعمد، لأنها المرة الثالثة، منذ بداية هذا العام، التي يوهم فيها «داعش» شعب بلدٍ ما بأنه يمكن فعل شيء ما لإنقاذ أبنائهم، ثم يفاجئهم بأن أبناءهم قد لقوا مصرعهم منذ زمن.
حدث هذا مع الأردن واليابان، والآن مع مصر. هناك عدة تفسيرات لسلوك «داعش»، فبالإضافة إلى جو الترقب والخشية الذي ينجح التنظيم في خلقه، فهو يجبر الحكومات المعنية على دراسة، وتقّبل، فكرة التفاوض معه، أي التفاوض مع تنظيم إرهابي. وعندما تصل الحكومات وجمهورها إلى مرحلةٍ تبدو فيها كأنها قد تقبلت هذه الفكرة، يعدم التنظيم مخطوفيه ويظهر أنه غير مهتم بالتفاوض.
يذهب مراقبون إلى الاعتقاد بأن «داعش» يتحدى أيضاً مخابرات هذه الدول عندما يكشف أن الرهائن قد قتلوا منذ مدة، وأنه لم يكن لديها أي معلومات بهذا الخصوص، وهكذا يصير القول إلى أنه إذا كنت لا تملك معلومات موثوقة عن حدث مهم يتابعه جمهورك، فكيف ستقنعه بأنك قادر على جمع معلومات كافية لمحاربة ذلك التنظيم.
كذلك أرسل «داعش» رسائل إلى أطراف أخرى. فالمقطع الذي حمل اسم «رسالة موقعة بالدماء إلى أمة الصليب»، وفيه ذكر أن موقع الذبح هو جنوب روما، يأتي تذكيراً لأوروبا بأن التنظيم ليس بعيداً أبداً عنها. كذلك حمل المقطع رسالةً صريحة إلى أيمن الظواهري (القاعدة) الذي كان قد دعا إلى تجنب محاربة الكنيسة القبطية في مصر، إذ تكرر في الفيديو ما قاله «داعش» في الصفحة الثانية والثلاثين من مجلته (دابق)، لجهة التذكير بأن أسامة بن لادن هو المرجعية، ومن سيعمل التنظيم على الانتقام له.
أما على ناحية أخرى، فإن المصريين تحدثوا عن ضربة نفذها سلاح الجو ضد مواقع «داعش» في مدينة درنة، في الشرق الليبيّ، واستهدفت بالقنابل الذكية مواقع للتدريب ومخازن للسلاح وأدت إلى مقتل أكثر من خمسين من مسلحي التنظيم (بينهم سبعة قياديين) على الأقل، فيما تحدث قائد الطيران الليبي عن مقتل 150. القصف الجراحي المستند إلى معلومات استخبارية منع وقوع إصابات في صفوف المدنيين، برغم محاولات «داعش» التحصن في مواقع تغصّ بالمدنيين.
عموماً، إن الفصائل المسلحة في ليبيا استفادت من حالة الفوضى خلال السنوات الماضية، وتقاسمت ترسانة الجيش الليبي السابق وقواعده العسكرية، واستفادت أيضاً من التحصينات الخرسانية في بعض هذه القواعد التي يبدو أنها تعرضت للقصف من سلاح الجو المصري، كما ظهر في مقاطع الفيديو التي نشرتها القوات المسلحة المصرية، ثم أكدت أنه سيكون هناك المزيد من الضربات، وأن الحرب مستمرة على الإرهاب داخل مصر وخارجها، على حد سواء.
هذه هي المرة الأولى التي تعلن فيها مصر رسمياً تنفيذ ضربات جوية عبر الأجواء الليبية. وذلك بعد أن انتشرت في الصيف الماضي أنباء صحافية عن أن مصر والإمارات قد نسقتا بينهما ونفذتا عدداً من الغارات الجوية استهدفت مواقع للمتطرفين الإسلاميين في ليبيا. هذه الأنباء التي نفتها الحكومة المصرية آنذاك كانت قد جاءت على لسان مسؤول أميركي كبير تحدث لصحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية.
صحيح أن الصحيفة الأميركية أشارت إلى أنّ من المرجح أن تكون الإمارات هي التي قدمت الطائرات والطيارين، فيما اقتصر الدور المصري على تقديم القواعد الجوية، لكن هذا لا يعني أن القاهرة كانت قد اكتفت بدور المتفرج. فقد وصل التنسيق بين مصر واللواء الليبي خليفة حفتر منذ العام الماضي إلى مراحل متقدمة. وإضافة إلى التعاون المخابراتي بين الطرفين، فقد كشفت بعض الصور ومقاطع الفيديو التي نشرت لقوات حفتر، في شرق ليبيا، أن المساعدات العسكرية المصرية شملت، على الأقل، ثلاث طائرات ميغ 21 وثلاث مروحيات من طراز مي-8 الروسية الصنع.
رغم ذلك، يبدو أن قوات حفتر تحتاج إلى مساعدات أكبر بكثير من هذه الأعداد. فالضربات التي نفذها الناتو في 2011 حرمت ليبيا سلاحها الجوي. وحتى الآن، بعد قرابة أربعة أعوام، لم تنجح البلاد في تعويض خسائر سلاحها الجوي. وهو نفسه ما حرم قوات حفتر استثمار المعلومات الاستخبارية المتوافرة لديها عن مواقع المتطرفين الإسلاميين.
وعود على بدء، فإن حادثة إعدام الرهائن المصريين وفرت الأرضية الضرورية لتشريع التدخل المصري الصريح والاستفادة من هذه المعلومات الاستخبارية لضرب مواقع «داعش» في ليبيا. لكن المشكلة التي قد تواجه القاهرة أن قواتها لا تملك قواعد كبيرة في الجزء الغربي من مصر، لأنه منذ «ثورة يونيو 1952» وتسارع بناء القوة، كان التركيز على تطوير وتحشيد القواعد العسكرية في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد، إذ لم يكن ينظر إلى أنه يمكن أن يكون هناك عدو محتمل من جهة الغرب.
ربما لهذا السبب اضطرت الطائرات المصرية الستّ (من طراز إف-16) إلى أن تطير أولاً قرابة أربعمئة كيلومتر من «مطار غرب القاهرة العسكري» إلى «مطار مرسى مطروح العسكري»، ثم طارت بعد ذلك مسافة أخرى تقارب خمسمئة كيلومتر لقصف مواقع «داعش» في درنة. من هنا قد يكون من المبكر الجزم بأن سلاح الجو المصري سيشارك مباشرة في تقديم الدعم لقوات حفتر على الأرض في الشرق الليبي؛ فمصر قد امتلكت هذا الحق بمجرد أن تحولت ليبيا إلى منطقة يستهدف فيها «داعش» رعايا ومصالح مواطنيها، لكنها قد تكتفي الآن بتقديم المزيد من الدعم غير المباشر لقوات حفتر، بما في ذلك المزيد من طائرات الميغ 21. أيضاً يمكن أن تركز على تعزيز حماية الحدود البرية مع ليبيا التي تزيد على ألف كيلومتر، إضافة إلى تعزيز المواقع العسكرية في الشرق، في سيناء، قبل أن تعلن الحرب الشاملة على «داعش» في ليبيا.
الأكيد هو أن الحادثة الأخيرة أظهرت أن مصر بحاجة إلى طائرات ذات مدى أبعد تسمح لها بالعمل بحرية فوق كامل الأراضي الليبية، وهذا غير متاح حالياً. والحرب على المتطرفين الإسلاميين في ليبيا ستبقى بعيدة عن الحسم ما دامت هناك بؤر آمنة بعيدة عن يد مصر. قد تحل «الرافال» الفرنسية هذه المشكلة جزئياً، إن صدقت الأنباء عن تسليم عدد من هذه الطائرات هذا العام. وريثما يتم هذا، قد تعوض مشاركة الطائرات الإماراتية، على نحو ما جرى الصيف الماضي، هذا النقص.
تبقى هذه تفاصيل تكتيكية وتقنية على أي حال، في حين أن المعطى الاستراتيجي الأكيد أن مصر قد انخرطت تماماً في الحرب على «داعش» بكل ما يجلبه هذا الانخراط من تبعات، بما فيها التحالف المحتمل الذي تحدث عنه الأسبوع الماضي الصحافي البريطاني روبرت فيسك، بين روسيا ومصر، إذ سيكمل التحالف المضاد للإرهاب الذي أسست له روسيا مع سوريا.