عبد الحليم فضل الله لا بد من أن تصل الأسواق أولاً إلى قاع الحفرة التي أوقعت نفسها بها، قبل نسج التوقعات والبحث في كيفية الخروج منها. فمن الناحية التقنية ما زالت الأزمة في طورها الأول، ولم تصل الموجة بعد إلى أسواق العملات والسلع الأساسية، وأنشطة الاقتصاد الحقيقي. ومع أن حدوث تحولات جوهرية في قواعد عمل الرأسمالية نفسها، بات أمراً مفروغاً منه، فإنّ قيام نظام اقتصادي جديد تنتظره أسئلة صعبة: أين هي نقطة ارتكاز هذا النظام، وأي اقتصاد بوسعه أن يكون رافعة النهوض مجدداً؟ ما هي العملة أو العملات المرجعية البديلة التي ستنافس الدولار؟ ولئن كانت حرية تنقل الرساميل وتعويم العملات تقف وراء الهزات الدورية في أسواق المال والقطع، فهل يمكن العودة إلى التثبيت النقدي والحد من حرية تنقل رؤوس الأموال؟ ما هو الإطار الذهني البديل الذي سيحكم أداء صانعي القرار، وما هي المبادئ الجديدة التي ستعتمد عند رسم السياسات؟ من هم المرشحون أكثر من غيرهم لدفع ثمن الانهيار والتصحيح؟...
إن مصير المؤسسات الدولية هو أيضاً على المحك، وتحديداً منها صندوق النقد الدولي الذي جعل من رقابة الدولة نقيضاً لحرية السوق، وتسببت شروطه في زيادة احتمال نشوب الأزمات، وها هو يقف عاجزاً الآن عن القيام بأي دور لجهة تأمين السيولة، أو إلزام الدول المتعثرة بوصفاته الجاهزة، فمن دروس الأزمة أنها أظهرت ضعف فعالية الصندوق وضيق مجال عمله، الذي يكاد ينحصر بمعالجة الأزمات الصغيرة وتكييف سياسات الدول النامية مع احتياجات الدول الصناعية. وما ينطبق على صندوق النقد ينطبق أيضاً على البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية التي فقدت زخمها منذ بدأت الولايات المتحدة الأميركية تواجه منافسين جدداً وخسرت أفضليتها في المبادلات الدولية. وإذا أضفنا إلى ما تقدم النزعة الاقتصادية الوطنية التي بدأت تلوح في الأفق، أي انهماك كل دولة من الدول بحماية مصالحها الخاصة عوضاً عن التعاون المشترك، فسنشهد ربما تقويضاً شاملاً للهيكلية العامة التي قام عليها الاقتصاد الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وليس هناك ضمانات كافية بقيام هيكلية بديلة، بسبب تداعي البيئة السياسية العالمية، وعدم وجود دول أو أطراف قادرة على القيام بذلك.
وللمفارقة، فإنّ الولايات المتحدة والصين هما الدولتان الوحيدتان القادرتان على التدخل والإنقاذ، الأولى لدورها العالمي المعروف ولحقوقها «السيادية» في خلق السيولة وفق «بريتون وودز»، والثانية لصعودها الاقتصادي واستحواذها على جزء كبير من الاحتياطيات الدولية (ما يوازي 1.3 تريليون دولار)، لكنهما مع ذلك غير مؤهلتين للقيام بدور قيادي في المرحلة المقبلة، فالولايات المتحدة هي مركز الأزمة ومصدرها، وبالكاد تستطيع اليوم تأمين الحد الأدنى من الأموال اللازمة لإنقاذ نفسها (تقدر قيمة الأوراق الخطرة المورّقة استثمارياً بأكثر من 6600 مليار $، ويبلغ معدل ديون الأفراد فيها أكثر من 141% من الناتج الصافي)، أما الصين فإن نموّها المذهل منذ عقدين لم يخرجها بعد من لائحة الدول السائرة في طريق النمو، وما زال أمامها الكثير لتفعله قبل إمساكها بزمام المبادرة العالمية. الجانب الأوروبي من الأطلسي بدوره يمر بصعوبات لا تقل خطورة عما يحدث في الجانب الآخر، ومن الوجوه الخفية للأزمة أنّ وضع بريطانيا أصعب من وضع أميركا نفسها، نظراً لضخامة قروضها الرديئة التي تمثل حوالى 15% من ناتجها القومي، وارتفاع معدل مديونية الأفراد فيها إلى حوالى 177% من صافي الدخل، وهي بخلاف واشنطن غير مؤهلة لاحتواء أزمات كبيرة الحجم، شأنها في ذلك شأن باقي الدول الأوروبية.
ماذا عن الدول الأخرى؟
ستكون الدول النامية، ومن بينها خصوصاً الدول العربية، في طليعة الخاسرين إذا اكتفت بانتظار ما سيرسم لها من أدوار، فقد كانت ضحية ظروف الحرب الباردة التي حالت دون تمتعها بالجوانب الإيجابية للرأسمالية الاجتماعية، أو الاشتراكية الديموقراطية، ثم كانت ضحية الاندراج العشوائي في نظام العولمة، وتحوّل النفط في باطنها إلى مصدر تهديد داخلي وخارجي، وها هي اليوم تقدم دون تحسب على إنفاق رصيد صناديقها السيادية الثمين على المؤسسات الكبرى المنهارة.
ليس على هذه الدول أن تنتظر ما يقوم به الآخرون دون أن تحرّك ساكناً، على أمل أن يضمن هؤلاء مصالحها وحقوقها، بل عليها اجتراح حلولها الخاصة، فتتحول من الخضوع لقواعد توضع في الخارج إلى شريك كامل في وضع تلك القواعد. وإذا كانت مهمتها العاجلة هي الخروج من دائرة الخطر ومعالجة الاختلالات الخطيرة التي تمر بها أسواقها، والنأي بنفسها ما أمكن عن أن تكون صماماً لتنفيس احتقانات الأسواق العالمية ومجمعاً لتصريف مخلفات الأزمة وبقاياها، فإن مهمتها المحورية، هي اغتنام اللحظة التاريخية والانسحاب الجماعي والمبكر (لنقل المؤقت والمدروس) من النظام الاقتصادي العالمي في لحظة سقوطه، قبل أن تقوّض الانهيارات الكبرى اقتصاداتها وأنظمتها.
إن هذا يعني اتخاذ أربعة قرارات جريئة وحازمة: الامتناع تماماً عن مدّ المؤسسات المصابة بالسيولة؛ إعادة صياغة علاقاتها جذرياً بالمؤسسات الدولية الثلاث: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية؛ الخروج من منطقة الدولار؛ واسترداد تدريجي للاستثمارات المهاجرة. على أن يترافق ذلك مع تنسيق السياسات الاقتصادية والنقدية في ما بينها، واعتماد سلّة متنوعة من العملات ترتكز على عملاتها الوطنية، المتوقع أن تصبح حينذاك ملجأ الهاربين من منطقة الدولار والعملات الصعبة المضطربة.
إنه خيار بين النوم قرب مركز الزلزال أو اللجوء إلى مكان آمن.