دمشق ــ سعاد مكرمشيّعت سوريا، أول من أمس، واحداً من أعلام الصحافة السورية وأحد أهم مفاتيحها في الفترات الحرجة، جبران كوريّة، الذي رحل بعد مسيرة مهنية طويلة بدأت منذ نهاية عقد الأربعينيات، حين رأس تحرير جريدة «العلم»، لتمهد له الطريق لرئاسة تحرير جريدة «الحضارة» تلاها العمل في جريدة «الرأي العام»، إحدى كبريات الصحف السورية في الخمسينيات.
أواخر الخمسينيات، وبعد قيام الوحدة بين سوريا ومصر، أُغلقت الصحف، ووجد جبران كورية نفسه يفكر بالسفر، وكانت الوجهة ألمانيا، ليعمل هناك مديراً للقسم العربي في إذاعة «دويتشه ميله» لنحو 12 عاماً، عاد بعدها إلى سوريا بداية السبعينيات ليشارك في تأسيس جريدة «تشرين». في الثمانينيات، اختاره الرئيس حافظ الأسد مديراً للمكتب الصحافي في القصر الجمهوري، ومكث في موقعه حتى عام 2004.
دهمه المرض قبل نحو عام ونصف. أُرسل لتلقي العلاج في ألمانيا بتوجيه من الرئيس بشار الأسد. وفور عودته الصيف الماضي، نشر في «تشرين» مقالة تحت عنوان «خواطر من ألمانيا» كانت آخر ما كتبه للصحافة.
في بيته المتواضع البسيط، ظلت أقلامه وأوراقه ومكتبة ضخمة لأمهات الكتب، وهي الشيء الأثمن في المنزل. أما أبناؤه فقد استقر الأكبر فادي في ألمانيا بعد دراسته هندسة الطيران الفضائي، وابنته رندة دخلت السلك الدبلوماسي الألماني لتكون قنصل ألمانيا في مدغشقر. أما الابن الأوسط (راني) الذي لازم والده في دمشق، فقد وجد نفسه يمتهن الصحافة، فعمل مراسلاً صحافياً، ثم بدأ بإصدار مجلة شهرية «المحيط السياسي» التي بدأ جبران كورية بنشر جزء من مذكراته فيها.
علاقة جبران بابنه راني لم تكن علاقة عادية بين أب وأبنه، بل كانت أوسع بكثير. يقول راني: «لقد كان معلمي وأستاذي، تعلمت منه الكتابة الصحافية، ولم أعرف أصدقاء غير أصدقائه».
ورغم هذه العلاقة المتميزة، إلا أن راني حين عمل مراسلاً صحافياً، لم ينل من والده مدير المكتب الصحافي في القصر الجمهوري أي تعامل خاص، بل كان كأي مراسل آخر. ويقول راني إن المسوؤلين كانوا يعطونه الخبر في الوقت الذي يصرّ فيه والده على الصمت.
الإعلامي فايز الصايغ، الذي شغل منصب المدير العام لوكالة الأنباء السورية (سانا)، وصف جبران كوريّة بأنه كان «مرجعية إعلامية لمدة ثلاثة عقود مرت بها سوريا، هي الأدق والأصعب» ويتابع، لـ «الأخبار»: «من أبرز الأدوار التي قام بها كورية أنه كان قارئاً جيداً ومتابعاً مميزاً لخطوات الرئيس الراحل حافظ الأسد وتوجهاته في أدق الظروف وأصعبها، سواء كان على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي».
وعن أسلوب جبران في التعامل مع الصحافيين في مختلف مواقعهم ومسؤولياتهم ومستوياتهم، يقول الصايغ إنه تميّز «بالدقة والشفافية والموضوعية مع البعض، وبالأبوة و(الأستذة) إذا صح التعبير مع البعض الآخر، وبالمرجعية المهنية والسياسية مع الجميع».
ويقول فايز الصايغ: «كان يعلمنا المهنة بتفاصيلها عن بعد بما يشبه الأبوة المهنية، وكان كلما وافق على مادة، أشعر بأنني اجتزت امتحاناً، وهكذا تتالت الامتحانات، والنجاحات في مدرسته لأنه ما من راسب في هذه المدرسة».
ويروي الصايغ واحداً من المواقف الصعبة التي وضعه أمامها الراحل كورية، فحين كان في مكتبه في القصر، وبعدما طال الحوار، طلب الصايغ الاستئذان بذريعة أن لديه زاوية، وعليه ألا يتأخر في كتابتها، فقال له كورية: «هذا مكتبي، وهذا ورق. اكتبها هنا وأرسلها بالفاكس». ويصف فايز الصايغ نفسه في تلك اللحظات المحرجة بأنه «تصبب عرقاً وسرت قشعريرة في جسده، كتلميذ في قاعة الامتحان، وقد سُرَّ جبران لدى نجاحه في الامتحان».