عبد الحليم فضل الله ليس أمام الإدارة الأميركية الجديدة إلا أن تواجه التحديات بأصابع محروقة مسبقاً، فهي ملزمة من الآن بشراكة قهرية مع ميراث جورج بوش، الذي لم يدّخر جهداً في مطاردة المتاعب واصطياد العواصف، فارضاً على خلفه سلسلة طويلة من المهمّات التي لا تخدم شعار التغيير. ولنلاحظ هنا أن الطابع الثوري لحملة باراك أوباما لم يكن في شعاراته الجريئة، ولا في برنامجه الرئاسي الذي مال تدريجاً نحو مهادنة المؤسسة السياسية الأميركية، بل في طبيعة المجموعات التي صوّتت له (الشباب، السود، الأقليات، المقترعين لأول مرة)، وقررت بالتالي مصير الانتخابات، إلى جانب جماعات الضغط والتكتلات الاقتصادية الكبرى وعلى قدم المساواة معها.
لكن ما الذي سيفعله أوباما بتلك التركة الثقيلة، التي ستقتطع وقتاً ثميناً يفترض أن يصرفه للوفاء بوعوده، والعثور على حلول دائمة تعطل الأزمة وتمنع تسلسل وقائعها من التحول إلى كارثة لا يمكن السيطرة عليها أبداً. وهذا ليس باليسير، فمواجهة أسوأ تركة مالية منذ ثمانية عقود، وأصعب أزمة اقتصادية منذ دورات الركود المتتابعة بين عامي 1978و1981، تتخطى ما في جعبة الديموقراطيين من سياسات وطرق عمل، ولا تقدم الأزمات التي عرفتها الأسواق في العقدين الأخيرين، خبرات ملائمة عما ينبغي فعله، وحتى أزمة اليابان التي كانت محط اهتمام المحلّلين لم تعد مثالاً صالحاً، ووفق توقعات صندوق النقد الدولي عن النمو الاقتصادي في العام المقبل، فإن الركود الطويل الذي عرفته اليابان كان قبل أسابيع أسوأ ما يمكن الولايات المتحدة الأميركية أن تتوقعه، أما الآن، فإنّ ذلك الاحتمال هو الأفضل من بين احتمالات أكثر سوءاً.
وإزاء ضخامة كلفة الإنقاذ وطول مدته التي قد تستمر حتى الانتخابات القادمة، لن تجد إدارة اوباما أمامها سوى التحلي بقدر أكبر من الواقعية والتواضع، وأن تستجمع كل مهارتها وشجاعتها ليس من أجل التحليق عالياً، بل للقيام بهبوط اضطراري، والتمعن بالحقائق التي لا يمكن تجاهلها...
ففي السنة المالية الأولى التي بدأت في تشرين الأول الماضي، يتوقع أن يصل حجم العجز الفدرالي حسب وزارة الخزانة الأميركية إلى 1400 مليار دولار، وهذا الرقم الذي لم يسبق له مثيل مرشّح للزيادة، إذ إن كلفة إنقاذ الأسواق الأميركية لن تقف عند حدود الـ 2600 مليار دولار التي أنفقت حتى الآن، بل ستتبعها مبالغ أخرى يصعب تقديرها سلفاً، وخصوصاً أن سياسات بوش ــ غرينسبان أدت إلى نشر الخسائر في جميع الاتجاهات.
قد لا يكون بوسع أوباما إنقاذ أميركا والعالم من الركود والتوصل إلى حلول سريعة، لكنه مؤهل للإسهام في وضع إطار عمل جديد للنظام الاقتصادي الدولي، وفي برنامجه إشارات لافتة إلى أنه مستعد لتجاوز الخطوط التقليدية لبرامج الديموقراطيين، ليلامس الطريق الثالث الذي دعا إليه عالم الاجتماع البريطاني انطوني غيدنز قبل عشر سنوات، معوّلاً في حينه على وصول أحزاب يسار الوسط في أوروبا إلى السلطة. وتقوم فكرة الطريق الثالث على مبادئ الاقتصاد المختلط ودولة الاستثمار والشراكة المدنية بحثاً عن رفاه واقعي وديموقراطية اجتماعية حديثة. ويخالف غيدنز بذلك آراء الليبراليين الجدد الذين اعتبروا دولة الرفاه مصدر كل الشرور، لكونها بحسبهم تعطل روح المبادرة، وتهدّد الركائز التي تقوم عليها الحريات العامة.
على أن انبعاث الطريق الثالث يتطلّب تجاوزاً سريعاً للأزمة، ولجم المنافسة بين مراكز الاقتصاد العالمي، وشراكة عالمية في صناعة القرار، وإصلاحاً للمؤسسات المالية والنقدية وتعميم القناعة لدى الدول الرئيسية بأنّ الحلول ينبغي أن تحفظ مصالح كل الأطراف.
وعلى أي حال، فإن أوباما الذي لم يفصح حتى الآن عن استراتيجيته الاقتصادية كاملة، اقترب بوضوح من السياسات الإصلاحية التي ظهرت في ثلاثينات القرن الماضي، واستلهمت الأفكار التي أطلقها اقتصاديو السويد، أو ما عرف بالثورة السويدية التي أطلقت الدعوة إلى قيام دولة الرفاه الشامل، قبل أن يجسدها جون مينارد كينز في خطاب مفتوح إلى الرئيس فرانكلين روزفلت نشر في صحيفة نيويورك تايمز عام 1933. وإذا تمكّن أوباما من وضع برنامجه موضع التطبيق، يكون قد فتح المجال أمام جيل جديد من السياسات العالمية يقوم على العناصر الخمسة التالية: صرف اهتمام أكبر بمجريات الأمور في أسواق الإنتاج بدلاً من التركيز فقط على الأسواق المالية، دعم الطبقات الوسطى وإحياء فكرة العدالة الضريبية، تنشيط دور النقابات التي لا غنى عنها حتى يتمكن العمال من تعويض خسائرهم المتراكمة خلال ربع قرن، اعتماد سياسات جديدة للطاقة والبيئة، واستعادة الدولة لدورها على صعيدي الرقابة والتنظيم وفي مجال الإنفاق على البنى التحتية. وفي النقطة الأخيرة يتوقع انحسار موجة الخصخصة، بسبب تنامي المخاطر من جهة، وحاجة الاقتصاد الأميركي إلى إنفاق هائل لتطوير الخدمات العامة المتقادمة يتخطى طاقة القطاع الخاص من جهة أخرى. إن كل بند من هذه البنود الخمسة يتحدى مبدأً من مبادئ الرأسمالية المالية التي استخدمتها أميركا في السابق لمنع دول عدة من إصلاح أوضاعها بالطريقة التي تراها مناسبة.
في أزمة الثلاثينات استجاب الرئيس جورج هوفر لتوصية اقتصاديَّين معروفَين هما جوزيف شومبيتر وليونيل روبنز، اللذين أقنعاه بأن الانتعاش لا يكون صحيحاً إلا إذا جاء من تلقاء نفسه، وليس عليه بالتالي إلا أن يترك الأسواق تصحح نفسها بنفسها. لكن الأسواق الأميركية لم تبدأ بتصحيح نفسها إلا بعدما تصرّف الرئيس اللاحق على عكس هذه التوصية فحوّل الدولة إلى شريك رئيسي في الحياة الاقتصادية، وأعاد النظر بما كان يعدّ في ذلك الوقت مسلّمات قاطعة.