strong>وائل عبد الفتاح السلطة في مصر محافظة، لكن ليس تماماً. تغضّ عينها حين تريد. والسياسة في مصر تعشق النميمة، لكن لا تظهر على صفحاتها الأولى. هذه قوانين تكسرت أخيراً، خلعت السياسة أقنعة المحافظة وطاردت قفازات الحديد كتاباً ومجلة

■عندما كسرت الصحافة «أسطورة» أيمن وجميلة



«أخيراً تكلّمت جميلة». للمرة الثانية يتحول كلام جميلة إسماعيل عن حياتها الزوجية مع أيمن نور إلى مانشيت في الصفحة الأولى من صحيفة يومية مستقلة.
في المرة الأولى أكدت جميلة: انفصلنا. والثانية كانت بعد محاولات أيمن نور تكذيب الخبر. لكن جميلة أكدت مرة أخرى: انفصلنا.
الصحيفة تحبّ صورتها الوقورة. وتتعامل كما لو كانت نسخة مستقلة لـ«الأهرام» الحكومية. وليس من عادتها وضع أخبار الزواج والطلاق وقصص الحب في صدر صفحتها الأولى. ومتى؟ يوم إضراب ٦ نيسان.
«مؤامرة»، هكذا يمكن تفسير الأمر بسهولة: التوقيت وحجم الاهتمام، ثم الإصرار على نشر الخبر الأول رغم إنكار أيمن نور في اليوم نفسه، إلى حدّ أنه قال للمسؤول عن التحرير: «يمكن أن أشتري الطبعة الأولى كلها حفاظاً على أسرتي».
أيمن نور ظهر في برامج تلفزيونية يؤكد إصراره على الرفض: لم أطلّق جميلة. هذا قبل أن تتحدث جميلة لتحسم القضية: انفصل أشهر زوجين في المعارضة المصرية.
الواقعة كلها غريبة وجديدة على المزاج السياسي في مصر. وهو مزاج محافظ غالباً، منذ وصول الجنرالات بمزاجهم المحافظ إلى السلطة، ورغبتهم في إعلاء «أخلاقهم» في مواجهة عربدة الملك وفساده بين نساء البارات وصالات القمار، كما أشاعت صحافة الثورة صورة مختصرة عن الملك.
لم ير أحد زوجة الرئيس الأول محمد نجيب. وظهور زوجة عبد الناصر كان خفيفاً. أما أنور السادات، فقد كان أكثر جرأة وممزقاً بين صورته الريفية (رب العائلة المصرية والرئيس المؤمن ابن القرية) وصورته رئيساً حديثاً يرتدي أحدث موضات الملابس ويحتل موقعاً بين أكثر الرؤساء أناقة في العالم. ومن هنا ظهرت صورة زوجته السيدة جيهان السادات نموذجاً مختلفاً للسيدة الأولى. هي الزوجة الثانية وتصغر الرئيس بسبعة عشر عاماً وجميلة ومتطلعة إلى صورة أبعد من «سيدة البيت».
وكانت جيهان إحدى نقاط ضعف الرئيس من معارضة داعبت الخيال الشعبي، فروجت لصورة «سارقة الأزواج» و«الزوجة المسيطرة» والتقطت قبلة الرئيس الأميركي جيمي كارتر على جبينها لتكون دليل فساد السادات.
مبارك تعلم الدرس وأمر الصحافة في أيامه الأولى بالابتعاد عن «أهل بيته»، قبل أن تتحول «عائلة الرئيس» إلى موضوع سياسي يثير شهوة الصحافة المستقلة الوليدة المتحفزة إلى ملفات تكسر بها أحد التابوهات المقدسة، لتفتح جسراً بينها وبين قارئ عاش أسير صحافة موجهة من النظام سنوات طويلة، لم يعرف بعدها إلا صحافة تداعب المكبوت الجنسي والاجتماعي تعويضاً عن عجزها عن الاقتراب من المكبوت السياسي.
العائلة كانت أهم ملفات الصحافة المستقلة، لكن من زاوية سياسية. ولم يتغير الوضع رغم الاهتمام المؤقت بقصة زواج جمال مبارك من فتاة تصغره بعشرين سنة على الأقل. فلا تزال قصص غرام الرؤساء والمسؤولين محرمات تدس في أدراج الذاكرة أو في حفلات النميمة. والسلطة لا تعرف الحب إلا كفضيحة.
المسؤول هو زوج ملتزم وقور، يظهر مع زوجته في الحفلات، وفي المناسبات وفي الصور الرسمية عند مصورين متخصصين في البورتريهات العائلية.
لا تسمع عن غراميات مسؤول إلا في إطار الحرب عليه أو السخرية منه. لا يزال الناس يتندرون على عبد الحكيم عامر لأنه تزوج برلنتي عبد الحميد. ينسون عقد الزواج ويتذكرون فقط الجانب المثير من الحكاية، التي رآها بعض الطيبين السبب الحقيقي لهزيمة حزيران 1967.
وهكذا تخفي مذكرات السياسيين كل ما يتعلق بالحياة العاطفية. كلها سير مهذبة. تطمئن الحياة. وتصنع صورة مثالية لصاحبها. صاحب المذكرات يريد أن تكون هي صورته الأخيرة، يرسمها بعناية من يريد أن يحذف من حياته كل ما يبعده عن بطولة يتصور أنه ينفرد بها في الحياة.
السلطة تحمي قصصها العاطفية بجدار من السرية. ولم تهتم الصحافة قبل هذا بقصة طلاق بين زوجين سياسيين كما اهتمت بقصة أيمن وجميلة.
وقبل أيام من بداية القصة، نشرت صحيفة نميمة صورة كتبت عليها «حسناء المنيل». وفي الصفحات الداخلية إشارة إلى أن الصحيفة التقطت أول ظهور لسيدة الأعمال شاهيناز النجار بعد طلاقها من الملياردير أحمد عز، الرجل الثاني في المجموعة المقربة من جمال مبارك. وشاهيناز هي الزوجة الرابعة لعز. وأثارت قصة زواجهما ضجة لأنه طلب منها الاستقالة من عضوية مجلس الشعب.
لكن قصة عز لم تلق اهتمام الثنائي المعارض نفسه. ربما لأن قصتهما تتكون كأسطورة متعددة المستويات في الكفاح والوقوف في مواجهة الظلم والتضامن العائلي إلى حد تشبيه جميلة إسماعيل بأساطير شعبية (مثل ناعسة المصرية التي قصت ضفائرها الغالية لتعالج زوجها أيوب) أو باسطورة إيزيس الفرعونية التي تجمع شتات جثة زوجها أوزيريس المتناثرة بامتداد النيل.
شوق إلى أساطير معاصرة حوّل جميلة إلى بطلة، زوجة بطل تعرض للظلم والاضطهاد ودفع الثمن ولم يتراجع. من هنا ارتبكت الصحافة المستقلة في التعامل مع الخبر المتسرب من جميلة ويرفضه أيمن، فيما اندفعت صحف لإبراز الخبر ووضعته بجوار خبر الإضراب.
بين الخبرين حاولت صحف أن تبدو «مترفعة»، وقالت إن لديها المعلومات كاملة، لكنها لم تنشر احتراماً للحياة الشخصية. وصحف أخرى حللت الموضوع من زاوية فصل السياسي عن الشخصي: وماذا لو حدث الانفصال؟ هل سيدمر المستقبل السياسي لأيمن نور؟ تصور عاقل منحاز، عكس حياد الصحيفة السابقة في النشر الذي فسر حيادها بأنه «مؤامرة». ولأن بطلي القصة بلا سلطة، فضل الجمهور الانحياز. تبرم من «موضوعية» المحايد.
القصة فصل جديد من الأسطورة تجعل أيمن وجميلة على استعداد لمرحلة مختلفة، قد تتضمن «تكسيراً» للوجه الرومانسي القديم.

■ قفّاز الحديد والحرير«الأخلاق» في مصر استنسابيّة. معاييرها وتطبيقها خاضعان لمزاج السلطة وغالباً ما تكون شعاراً مرفوعاً للتغطية على فضيحة سياسيّة ما. هكذا كان الحال منذ سنين، ويبدو أنه سيبقى كذلك
تختلس يد العاشق لمسة من يد محبوبته. العاشقان يحجزان مكاناً على واحد من جسور النيل. يضعان العالم خلفهما، مكتفيان بالاختلاسات الحذرة وتفادي مطاردات المتلصصين؛ من عيون المارة، إلى الباعة المتجولين وحتى أمناء الشرطة الثقلاء.
المشهد معتاد للعابرين. سلسلة من عشاق توحي أن القاهرة مدينة حب مفتوح، لكنها ليست كذلك. فكل الثقلاء يمتلكون سلطة المراقبة، التي تعني السماح بسرقة اللمسات القلقة المشحونة بتوترات وتردد بين الممنوع والمسموح. السلطة حاضرة بين العاشقين. سلطة الحجاب على العاشقة والمساحة المتاحة للمس، والأثقل سلطة اتهام بفعل فاضح في الطريق العام. سلطة معلقة تستخدمها أجهزة الشرطة على هواها. وعندما تريد إعلان وجودها.
ورغم أن الدولة في مصر عمرها 100 سنة، وكان من المفترض أن تصبح دولة حديثة، إلا أن التاريخ الطويل من القهر، أولاً من المستعمر، ثم بعد ذلك من «أنبياء» التحرر الوطني، ومن بعدهم ورثة الصدفة التاريخية، يجعل التقدم ليس إلى الأمام دائماً. والمجتمع الذي بدأ حديثاً في مطلع القرن العشرين يقبل بالتنوع الديني والألوان السياسية، ويغلق كل يوم باباً في وجه حرية التفكير والاختيار والاختلاف. مرة باسم الدين أو الأخلاق ومرات باسم المصلحة العامة. وكلها أقنعة لمصالح سياسية أو أرباح قصيرة المدى وغطاء لدولة قبيلة يحكمها رأي واحد و«شلة» واحدة ولون واحد.. لهذا هناك شعور بالاختناق، والمطاردة، والمراقبة... ويشعر المجتمع بأنه مهدد بسبب فكرة أو رأي مختلف أو غريب.
سائق التاكسي ظل يحكي بألم عن بنت ليل ركبت معه وطوال الطريق تدلل «الباشا اللواء» على التليفون ليخرج لها زميلات المهنة. حملات التفتيش الأخلاقي تعرف طريق الصيد الثمين. لأن كل الشبكات المخالفة لقانون الآداب تقع غالباً تحت الرقابة وتستخدم في لحظات أزمة خاصة لضابط يريد أن يقفل موسمه أو يكمل حصته ليترقى، أو عامة لنظام سياسي كلما أراد إثبات وجوده ارتدى ثوب المفتش الأخلاقي وأنزل شرطته إلى الشوارع تطارد الناس باسم «الأخلاق الرشيدة».
هذا ما فعله أنور السادات مثلاً عندما اخترع شرطة اسمها «الانضباط» وقانون اسمه «العيب» في عزّ أزماته مع المعارضة ومغامراته في زيارة إسرائيل. وفي إحدى أزمات وزير داخلية في تسعينيات القرن الماضي (حسن الألفي) ولصرف النظر عن حملة صحافية على فساده، هزّت المجتمع أخبار عن القبض على شبكة آداب تضم نجمة صاعدة وقتها هي حنان ترك ونجمة أخرى أقل لمعاناً هي وفاء عامر.
قضيّة ملفقة بحث فيها الوزير عن قضية تفجر «فرقعة» إعلامية تسحب من رصيد حملة صحيفة «الشعب» الموجهة إليه. ولم يكن هناك أسهل من استخدام النجمات واللعب على السمعة والكلام السهل عن تجارة الجسد.
يتكرر الأمر الآن، ويبدو أن هناك جناحاً في السلطة يرى ضرورة للّعب على هذه المساحة لاعتبارات داخلية (التحضير لانتقال السلطة وأزمات ما بعد الأزمة المالية العالمية) وخارجية (رد على الاعتداء على صورة مصر أثناء العدوان على غزة واستعدادها لخوض معركة مع خصوم لهم وجه ديني إلى جانب الوجه السياسي).
هذا إلى جانب مغازلة جهاز بيروقراطي وأمني غلب عليه الطابع الريفي المحافظ، نتيجة ضعف فرص الصعود الاجتماعي ونتيجة لفشل التعليم الحكومي في تحفيز التفكير والإبداع. هذه المغازلة تأتي لتحقيق توازن مع ضغوط يستجيب فيها النظام لمطالب دولية بتغييرات في القوانين تفكك فيها الجانب المحافظ.
توازن يأتي على حساب الجانب الضعيف الذي لا تحميه الحكومة. وهذا ما فتح الباب أمام ضابط في أمن الدولة لأن يكمل مخططه. الضابط اصطاد رواية مرسومة اسمها «مترو»، كتبها مجدي الشافعي، ليعيد بها ذلك الفن (الرواية المرسومة) المنسي في مصر.
أسباب الاصطياد عديدة، لكن الظاهر منها والمباشر هو محمد الشرقاوي، مدير دار «ملامح» ناشرة الرواية. والشرقاوي هو مشاغب سياسي تعرض للاعتقال والضرب والاعتداء من فرق التعذيب في أمن الدولة. عندما حدث اقتحام الدار ومصادرة الرواية العام الماضي، ظنّ أن هذا هو «أعلى ما في خيل الضابط».
لكن يبدو أن خطة الضابط التقت مع مزاج عام في السلطة يميل إلى إعلان سلطتها الأخلاقية. ولهذا فالرواية الآن أمام المحكمة ومؤلفها وناشرها يهددهما حكم بالحبس بتهمة تشبه تهم تجار البورنو.
يمكن أن تكون هذه نزوة ضابط في أمن الدولة نشيط ويريد قضية كبيرة، لكن ما يجعل الشكوك تحوم حول لقاء نزوة الضابط وهوى السلطة هو تزامن محاكمة «مترو» مع قرار وقف ترخيص مجلة «إبداع»، التي تصدرها هيئة الكتاب بسبب نشرها قصيدة «شرفة ليلي مراد» للشاعر حلمي سالم.
غالباًَ سيسقط الحكم في الدرجة القضائية الأعلى. لكن لعبة السلطة قد اكتملت وأسفرت عن وجهين: أحدهما يمنع، والآخر ينقذ من المنع. إذا أردتها سلطة أخلاقية (ودينية أحياناً) فستجدها، وإذا أردتها تساندك في حرية التعبير فستجدها معك.
سلطة على كل لون. شمولية؛ لديها قوانين للمنع ولإلغاء المنع. قاسية ورخوة. تترك العشاق على النيل وتترك متلصصيها علامة على إمكان الانقضاض في أي لحظة. سلطة حديدية تمتلك قفازات حرير رديئة الصنع.