عبد الحليم فضل اللهها قد تجاوزنا المنعطف الانتخابي، لكن الأمور ليست على ما يرام، على الأقل بالنسبة إلى أولئك الطامحين إلى وضع مختلف. قيل إن المعارضة لا تملك برنامج إصلاح موحداً ولا حزمة حلول جاهزة، وهذا صحيح إلى حد ما، إلا أن لديها ما ليس لدى الطرف الآخر، وهو الحافز بل المصلحة المباشرة في عدم استمرار الوضع القائم. وفي مقابل الراديكالية الاقتصادية المسماة خطأً «ليبرالية»، والمتمسكة بتقاليد بالية ليس لها مثيل، كان هناك فرصة فوتتها نتائج الانتخابات، لخوض غمار تجربة أخرى، أكثر تقبلاً للآراء الجديدة، وبوسعها التفاعل مع الأفكار الاجتماعية التي تزداد أهمية ووزناً في أوساط الدول الغربية نفسها.
من غير الجائز بطبيعة الحال تعريض لبنان لاختبارات جذرية تعاند مرونته الطبيعية أو تزيد من هشاشته، لكن ذلك لا يقلل من قيمة مبدأ تداول السلطة ودوره في إعادة تكوين المناخات العامة. ومع أن هامش العملية السياسية في لبنان ضيّق، في مشهد مزدحم بالطوائف ومساحات النفوذ المغلقة حتى على صناديق الاقتراع، فإن تغيير الموازين الداخلية ساعد في السابق على كشف مواطن الضعف والقوة في الهياكل الداخلية للدولة وفتح المجال أمام احتمالات التغيير. لقد حصل ذلك على نحو مفارق ومخيب للآمال عام 1998 عندما شُكِّلت أول حكومة منذ انتخابات عام 1992 لا يتولاها الرئيس الراحل رفيق الحريري. أظهرت تلك التجربة أن قوى الإصلاح في لبنان هي أضعف بما لا يقاس من قوى الأزمة، لكنها أظهرت أيضاً أن الاصطفاف السياسي يمكن أن يقوم على أسس وطنية جامعة، لا على أسس طائفية وزبائنية فقط كما جرت العادة. لقد تمحور الخلاف حينها حول مسألة إدارة الدولة والسياسات الاقتصادية والمالية والنقدية، ومثّل ذلك البذرة الأولى للاشتباك السياسي الذي تعمّق واتّسع ومثّل إحدى روافع انقسامات ما بعد القرار 1559 وأزماته.
وما حصل بعد الانتخابات يؤكد هذا الاستنتاج، فالانقسامات العريضة بشأن مسائل الحرب والسلم والطائف والعلاقة بإيران وسوريا والغرب سرعان ما انكفأت إلى زوايا المشهد، لتحل محلها النية والرغبة باستئناف السياسات الداخلية نفسها. ويمكن أن نتوقع من الآن أنّ مساحة السلطة التي تطلبها الأكثرية النيابية الفائزة بمعزل عن شكل الحكومة المقبلة، لا تتعدى كثيراً الحيّز اللازم لتشغيل برنامجها الاقتصادي/ المالي وإمرار رؤيتها التي لم تتغير للأولويات والأهداف الداخلية.
هذا يعني أن الغالبية مستعدة لمقايضة سهلة من وجهة نظرها، قوامها التنازل عن جزء لا يستهان به من السلطة السياسية في مقابل السماح لها بإعادة عربة الاقتصاد والإدارة إلى السكة التي كانت عليها منذ الطائف. لكنها مقايضة غير عادلة وتكاد تكون متعذرة، إذ تصعب العودة إلى المعادلة الداخلية التي سادت في التسعينيات، وقامت على تسخير جزء كبير وثابت من الموارد العامة لتهدئة المتضررين من المشروع الإعماري والاقتصادي غير المتوازن، فاقتصاد الأزمة يختلف عن اقتصاد «إعادة الاعمار»، والتعلق بأمل التسوية هو غير الوقوع في قبضة التوتر الإقليمي ونذر الحرب، فيما يفتقر لبنان إلى الحد الأدنى من التماسك الداخلي الذي حظي به سابقاً وجعل سياسة التوزيع الريعي ممكنة وناجحة.
إن مأزق الغالبية النيابية يكمن تماماً هنا، فلا هي قادرة على تدبر الأموال اللازمة لشراء صمت المهمّشين والمبعَدين عن مشروعها، ولا هي بصدد مراجعة برنامجها ونهجها الاقتصادي والاجتماعي، فذلك قد يطيح مبرر وجودها نفسه، وليس أمامها إلا المضي إلى الأمام في الطريق نفسه، وتضييق دائرة الشراكة ما أمكن في الشؤون المتصلة بإدارة الدولة ورعاية المصالح العامة، مع أن ذلك لن يعود عليها بالنفع في نهاية المطاف.
تنتظرنا إذاً أربع سنوات إضافية من كبت النقاش الوطني بشأن السياسات العامة، تارة بدعوى صيانة الاستقرار المالي والنقدي، وطوراً بحجة تسهيل استقدام مزيد من الأموال من الخارج، ومرة ثالثة تحت شعار عدم خدش حكاية النجاح في مقاومة الأزمة المالية العالمية، مع أنها ضربت الأسواق المعولمة والمتطورة دون غيرها. تنتظرنا حقبة أخرى من الإمعان في الشيء نفسه، من نسج الأساطير والبناء عليها لطرد قدر التغيير، ومن اعتماد قاموس اقتصادي لا مثيل له، تحل فيه الهندسات محل السياسات، وتصدير أوراق الدين محل تصدير السلع والخدمات، ويكون فيه فائض الاكتتاب في سندات الخزينة وقيمة أصول المصارف أكثر أهمية من فائض حساب المعاملات الجارية وحجم الناتج المحلي. إن جهد المعارضة مهما كان موقعها في السلطة، ينبغي أن ينصب على منع السيناريو الأسوأ، وعدم منح سياسات الأزمة الحصانة التامة أو إخلاء ذمم أصحابها مسبقاً من تبعات ما يقومون به. فكلفة السياسات الخاطئة هي أعلى بكثير مما كانت عليه في السابق، والإخفاق في تخفيف تهور القابضين على السلطة، سيؤدي إلى موجات خطيرة أخرى من الاختلالات، التي قد تظهر على شكل تبديد للموارد والأصول العامة، وتضخيم غير محسوب للدين وزيادة خطيرة في معدلات الفقر التي تضاعفت نسبها في السنوات الخمس الماضية.
ينبغي عدم الاستهانة بما يمكن «ارتكابه» في بضع سنوات، فإجراءات قليلة من شأنها إطاحة التوازن الداخلي لأمد طويل، وهناك أهمية بالغة لجعل السياسات الاقتصادية والاجتماعية، جزءاً رئيسياً من التسويات الوطنية، لمنع الانفراد حيث يمكن وفرض التوافق حيث ينبغي، وخصوصاً في القضايا التي لا يمكن تركها لفريق دون آخر، مثل سياسات الدين والخصخصة، وإصلاح الخدمات العامة، وصيانة أنظمة الضمان الاجتماعي ومنع تفكيكها أو تذويبها في آليات السوق.
(رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق)