فادي عبود* انتهت الانتخابات اللبنانية بكل فصولها مكرّسة واقعاً سياسياً سيستمر أربع سنوات مقبلة، وانتهت الخطابات الانتخابية النارية المتبادلة، مفسحةً المجال أمام نقاش جديد يتمثّل في شكل الحكومة المقبلة، مع ما يرافق ذلك من جدل بشأن دور الموالاة والمعارضة، والثلث المعطّل، وبشأن جدوى أو خطورة وجود المعارضة والموالاة في حكومة واحدة.
ولقد أثبتت الانتخابات اللبنانية قدرة اللبنانيين على ممارسة الديموقراطية الحقيقية عبر الانتخاب، وتقبّل النتائج مهما كانت، ولكن السؤال المطروح اليوم هو هل سيتمكّن اللبنانيون من الاستمرار في هذا النهج الديموقراطي عبر ممارسة الديموقراطية الحقيقية وحسب الأصول في الحكومة المقبلة المنوي تأليفها؟
لم يتمكّن اللبنانيون حتى اليوم من إيجاد صيغة حكم مستوحاة من الممارسات الديموقراطية الصحيحة، وهو ما عطّل عملية الإصلاح خلال السنوات الماضية، فكانت طريقة التعامل بين الموالاة والمعارضة مبنيّة على المناكفة السياسية، فإما أن تكون المعارضة خارج الحكم وتعتمد ما يسمّى معارضة Macro، أي معارضة شاملة دون الدخول في التفاصيل الصغيرة، أو الدراسة الحقيقية للخطط والمشاريع التي تتقدم بها الحكومة، فتقوم برفضها بالكامل دون إبراز الأسباب أو التعليلات، وتتحول بالتالي إلى معارضة بالشعارات بدلاً من أن تكون معارضة بالمشاريع... أو أن تكون المعارضة داخل الحكومة في مساكنة قسرية مع الموالاة، يمارس عندها الطرفان التعطيل المتبادل، والمناكفة السياسية من داخل الحكومة، ما يحوّل مجلس الوزراء إلى ما يشبه مجلس النواب، بدلاً من أن يكون أداة تنفيذية متجانسة.
هاتان التجربتان أثبتتا فشلهما في تحقيق الإصلاح، والمرحلة المقبلة مليئة بالتحديات والاستحقاقات، ما يحتم على الموالاة والمعارضة إيجاد صيغة بنّاءة للحكم، ومن التجارب الناجحة التي اعتمدتها دول ديموقراطية عدّة هي إيجاد مشاركة فاعلة بين الموالاة والمعارضة، فتقوم الأكثرية النيابية بتأليف حكومتها، بينما تقوم المعارضة بتأليف حكومة ظل لمراقبة عمل هذه الحكومة، وذلك لإيجاد صيغة تعاون ومراقبة بين الطرفين، يكون هدفها الأول مصلحة البلد والمواطن.
إن الاستفادة من التجربة البريطانية تحديداً مفيدة جداً، فالقواعد البرلمانية نشأت وترعرعت في بريطانيا، قبل أن تنتقل إلى القارة الأوروبية والعالم. ولما يمتاز به هذا النظام من ثنائية حزبية، أي وجود حزبين رئيسيين يتناوبان الحكم، بحيث يكون أحدهما في الحكم يمارس السلطة الفعلية والآخر خارج الحكم يمارس مهمة الرقابة على الحزب الحاكم، فيتولى الحزب الفائز بالأغلبية النسبية (50% +1) تأليف الحكومة الفعلية، فيما يؤلّف الحزب الآخر حكومة الظل، وهي حكومة تماثل بأشخاصها ومهماتها الحكومة التي تتولى السلطة الفعلية.
إن المشهد السياسي لأي بلد ديموقراطي يكتمل بوجود هيئة تسمّي نفسها حكومة الظل، التي تمثّل المعارضة الرسمية للحكومة القائمة. وتستخدم هذه الحكومة الألقاب الرسمية نفسها التي تستخدمها الحكومة الفعلية، وتسمح بانتهاج معارضة بنّاءة تقوم على التحليل الفعلي لأداء الحكومة، ومراقبة التفاصيل الصغيرة والكبيرة.
وتقوم حكومة الظل بوظائف عدّة في إطار العملية السياسية الديموقراطية:
أولاً، تمثّل هذه الحكومة البديل الجاهز والمعلن للحكومة الفعلية.
وثانيا، تمثّل حكومة الظل معارضة منظمة للحكومة الفعلية، وتجعل منها «معارضة» منهجية، حيث توزَّع المهمات على وزراء حكومة الظل، ويتولى كل واحد من هؤلاء مهمة متابعة ومراقبة «أي معارضة» الوزارة المقابلة. وهذا يتيح معارضة قوية وفعّالة، ويحدّ بالتالي من انجرار الحكومة الفعلية إلى ممارسة سلطة مطلقة، أو إساءة استخدام هذه السلطة، كما يحدّ من هبوط مستوى الأداء السياسي للمعارضة نفسها.
وثالثاً، تتيح حكومة الظل للشعب أن يراقب المشهد السياسي بصورة كاملة، حيث تجلس الحكومة الفعلية في جهة، وحكومة الظل في جهة أخرى... واكتمال الصورة يجعل الشعب أقدر على اتخاذ المواقف الأقرب الى الصحة.
الأفضل إصدار قانون يحدد دقائق تأليف حكومة الظل وآلية عملها، وذلك لإعطاء المعارضة وضعية قانونية يقرّها الدستور، ويجعل المعارضة تتمتع بكيان سياسي وقانوني... ولكن على المعارضة اللبنانية تأليف حكومة الظل حتى لو اعترضت الغالبية النيابية على إصدار القانون، فالنظام البرلماني اللبناني يعطي المعارضة الحق في ذلك، إذ إﻥ ﺍﻟﺸﻌﺏ ﻫﻭ مصدر ﺍﻟﺴﻠﻁﺎﺕ، وﺍﻟﺸﻌﺏ ينتخب ممثّليه بكلّ حرّية في مجلس ﺍﻟﻨﻭﺍﺏ، والحكومة تحتاج إلى ثقة أكثرية المجلس النيابي، وﺍﻟﻨﻭﺍﺏ ﺍلذين ﻟﻡ يمنحوا ثقتهم للحكومة يمثلون معارضة برلمانيّة.
إلا أن فعالية حكومة الظل تفرض إيجاد آليات تسمح لكل وزير في المعارضة بإنشاء مكتب له يطّلع من خلاله على كل أعمال الوزير الأصيل، ووزارته، ليتسنى له القيام بأعمال المراقبة والاعتراض واقتراح البدائل والمشاريع العملية.
إن ممارسة المعارضة من داخل حكومة الظل هو ما يحوّلها إلى معارضة حقيقيّة لديها حقوق وواجبات، ويمنعها من الانكفاء والتحوّل إلى الضغوط السلبية وممارسة التعطيل. ففي بريطانيا، كل الفضائح التي أدت إلى استقالات كانت بسبب وزراء الظل الذين لهم حق الاطلاع على كل شاردة وواردة، كما أن وجود حكومة ظل في لبنان سيكون عنصر قوة للنظام السياسي، وعاملاً محفّزاً لتحسين أداء عمل الحكومة، وإنهاء الأزمة السياسية التي سبّبتها أزمة الثقة بين الكتلتين البرلمانيتين.
والأهم يبقى هذه الطريقة الديموقراطية هي الطريقة الأنجح نحو محاربة حقيقية للفساد عبر مراقبة دقيقة للتفاصيل والممارسات في الحكم، لأنْ لا أحد في لبنان فاسد بالشعارات التي يطرحها أو بنواياه ومواطنيته، بل إن الفساد يبدأ ويستشري من التفاصيل الدقيقة والصغيرة، وهي التي تحتاج إلى مراقبة فعلية.

* رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين