السؤال الرائج الآن: مصر إلى أين؟ يتردد في كل مكان من قصر الرئاسة إلى سيارة التاكسي. كأن الجميع ينتظر أمراً علوياً أو معجزة أو كارثة. لا فرق. المهم أن مصر قيد الانتظار. تُكبح فيها الحركة وتشتعل المنافسات وتنطلق الشهوات تقودها غريزة البقاء أحياناً أو تسيطر عليها نفسية الملل والإحباطوائل عبد الفتاح

■جمهوريّة العمى


«لم يعد كما نعرفه». الجهات التي قالت ذلك عن الرئيس حسني مبارك قد تكون الاستخبارات الإسرائيلية، أو جهات أخرى سرّبت لأشهر صحف إسرائيل، «معاريف»، نظريتها عن مستقبل الحكم في مصر. صحيفة أخرى «جيروزاليم بوست» تحدثت عن تولي الابن (جمال) رئاسة الحكومة في حياة أبيه. الملاحظات الإسرائيلية بدت دقيقة في ما يخص «فعالية» مبارك و«حضوره» في الملفات المهمّة. لكنها حوّلت الخيال إلى واقع، حين سارت أبعد من ذلك وصوّرت أن الرئيس المستقر على عرش «الجمهورية» في مصر سيستقيل وينقل السلطة إلى ابنه (جمال) ثم يعتزل السلطة.
النظام كذّب الخيال الإسرائيلي سريعاً، على لسان الأمين العام للحزب الحاكم، رئيس مجلس الشورى، صفوت الشريف، والمنوط به الرد على «أخبار التوريث»، أو بمعنى أدق محاولة التلصص من ثقب الباب على ما يحدث في الكواليس.
صفوت الشريف هو مندوب الرجال الغامضين الذين يتحركون في العلن وأمام الشاشات بطريقة آلية، لكنهم خلف الأضواء يدبرون شيئاً. يحتلون المسرح. وتنتظر مصر ما سيقررونه بشأن مستقبل عرشها.
الانتظار هنا مؤرق وقاسٍ، مثل «اختيار الموت بالسرطان أو بفيروس الكبد»، كما يقول صحافي شهير في جلسات خاصة، يتخلص فيها من اللعب على الشعرة وينحاز مرة إلى مدنية (جمال مبارك) ومرّات إلى إخلاص العسكر لتقاليد جمهورية الضباط الأحرار.
الانتظار يدفع مصر إلى حالة عبث غير مسبوقة. والاهتمام الإسرائيلي بدخول سباق العرّافين غريب ومنظم. السفير الإسرائيلي قال في عز أزمة حل مجلس الشعب إن «الحل هو بداية توريث جمال مبارك». السفير شارك بتصريحه في إبطاء الحسم. فليس من المعقول أن يحل المجلس، ويبدو سفير «العدو» على حق أو على معرفة بما يدور بين كهنة الدولة. وما يدور هو حرب غامضة تتسم بالتعقيد والمفاجآت. ويلفها ضباب لا يرى منه أحد الخطوة التالية.
ماذا سيقول الجمهور المتفرج المنتظر؟
الجمهور (صحف وتيارات سياسية وشعب كامل) بعيد عن الحرب. لكن لانتظاره معنى مهم في اللعبة. يعتمد الفريق القديم على أن جمال مبارك وفريقه بلا شعبية. ويهددان بهبّات يصعب توقع شكلها أو مواعيدها.الجمهور كتلة مخيفة في نومها. لكن الدولة (بحراسها القدامى) مدربة على ترويض الشراسة النائمة؛ بالقوى المسلحة ومظاهر البطش وأخيراً الإلهاء المتعمد، كما حدث في قضايا مثل «ضحية العنصرية في ألمانيا».
الدولة «القديمة» تقوم على الترويض. و«الجديدة» لم يتضح أسلوبها بعد. ظهر منه فقط الخطف والمفاجأة. وفرض الأمر الواقع (جمال مبارك) بالتدريج. الجمهور حائر بين الطريقتين. يفتقد حاسة المعرفة والوعي. ينتظر التغيير كأنه قدر. يتابع المباراة بخيالات متوتّرة. وبالتوازي يلهث وراء «لقمة العيش» في معركة البقاء، ويذوب في سحر القطيع الذي يحركة مذيعون وشيوخ في الفضائيات يلعبون في العقول المستسلمة تماماً لقمامات الميديا. الجمهور ينتظر التغيير بإحباط «المستبعد من أشياء تخصه». وغرماء حرب السلطة ينتظرون اليقظة المفاجئة أو الهبة من «عفريت الشارع». الانتظار يشل الحواس السياسية للغرماء والجمهور معاً.
شباب الإخوان المسلمين (يقلل المرشد العام من نسبتهم ويقول إنهم مجرد ١ في المئة) يطالبون الجماعة بالتصدي ومواجهة النظام. والجماعة تنتظر طلب المساندة من «شرفاء الأمة»، حسب تعبيرات الرسالة الأسبوعية للمرشد.
الانتظار يربك صورة «الجماعة» عن ذاتها. كما أنه يدفع إلى تفكيك صورة الدولة بين القديم والجديد. تفكيك تديره غريزة اللاوعي بمستقبل «الجمهورية»، غريزة تضع الدولة، التي بناها محمد علي وأحدث عبد الناصر نقلتها الثانية، في مهب شهوة الوراثة. شهوة تجعل نقيضها الوحيد (الإخوان وسعيهم إلى دولة دينية) يستقطب العواطف والأشواق إلى التغيير. اختيار عاطفي، لكن الجمهور المتعاطف المستلقي أمام الشاشات يحوّله إلى «وعي موهوم» بأن مواجهة السلطة تكون عبر إيقاظ الحس المحافظ والأخلاقي من مكامنه باعتباره وعياً سياسياً.
يحارب الجمهور المنتظر الحكومة بالغضب الصامت، وبخطاب مجمع من نثارات ممزقة تنحاز لمعارك فردية. تختار فيها ما تتصور أنه «المضطهد» في مواجهة السلطة «الجبارة».
في هذا الخطاب يتحول هشام طلعت مصطفى، أحد نماذج استخدام النفوذ في تكوين ثروات، إلى ضحية. وترفع لافتات في شوارع مدينته (الاسكندرية) تحمل صوراً ضخمة يظهر فيها الملياردير، المنتظر لحكم الإعدام، وبجواره شعارات «نثق في براءتك» و«ننتظرك قريباً».
وهي لافتات تكشف عن خلل القيم في لحظات الانتظار. وأيضاً عن قدرة الإلحاح الإعلامي على تسريب أفكار بدائية من نوع «هل يعدم رجل الخير بسبب مغنية متعددة العشّاق». وعي موهوم آخر ينسى العدالة. وينسى معها الطريقة التي جمع بها الملياردير ثروته. ويغلّف التواطؤ في جريمة قتل واستغلال نفوذ تحت شعارات أخلاقية وأحياناً دينية.
هذا ما يفعله الانتظار. يصيب المجتمع بالعمى. تتحرك حواسّه في مواجهة خطر كاذب. ولا يهتز إلا في حوادث فردية تلهب مشاعره. عمى لا يُشغل فيه الجمهور المنتظر بمحاولات العبث في بنيان الدولة، بينما تنتفض قرية كاملة بسبب معركة على زجاجة مياه غازيّة بين مراهق مسيحي وآخر مسلم، أو تشتعل قرية لأن مسيحياً تزوج مسلمة بعقد عرفي.
الانتظار يحرك الغرائز إلى مزيد من المؤامرات على البناء التقليدي للدولة، ومن دون أن تكون هناك قوى تستفيد من هذا التفكّك. تترنح مؤسسات الدولة بإيقاع غير منتظم. الإيقاع المرتبك له صدى أيضاً عند الخصوم (الإخوان)، فالأوراق التي اعتُقل بسببها قيادي مثل عبد المنعم أبو الفتوح تسربت من بين المجموعة الحديدية وقيل إنه انتقام أو حرب تصفية وصراع على السلطة.
الانتظار يفعل هذا وأكثر. يربك مؤشرات القيم والتقويم. ويجعل الجهات الإسرائيلية هي التي تعرف أن مبارك الآن ليس هو مبارك الذي يعرفونه. ومصر كلها على شعرة. يحركها عمى الانتظار.

■«أمّ الأجنبي»


«أعتقد أنكم أخطأتم في العنوان»، التفت موظف السفارة الألمانية للافتات تطالب بالقصاص لشهيدة الحجاب. وأكمل «القاتل الألماني قتل امراة واحدة، بينما قتل ٢٠٠ مسلم في أحداث الصين الأخيرة». وأضاف «سفارة الصين في الشارع المجاور»
كانت القاهرة مسرحاً لوقفات احتجاجية غاضبة من قتل الدكتورة مروة الشربيني بـ ١٨ طعنة من سكين جارها في مدينة دريسدن. القاتل ألماني ينتمي إلى حزب يميني متطرف ومتعاطف مع «النازيين الجدد». والقتيلة كانت تصاحب زوجها المبعوث للحصول على الدكتوراه. جريمة عنصرية بامتياز. أثارت مشاعر غضب عنيفة في القاهرة. واستسهلتها الصحافة وبعض التيارات السياسية وأطلقت على القتيلة وصف «شهيدة الحجاب». لم يترك الألم من الجريمة البشعة فرصة للتفكير في أن الوصف يحمل معنى التعصب والتطرف المضاد. هذه مبالغة كاشفة عن استسهال في إطلاق وصف «الاستشهاد»، بما يُفقده معناه الديني المميز لأفراد لهم خصائص معينة. والوصف نوع من التكريم لا منحة تعطى من قبيل التعاطف أو الحزن.
أصبح وصف الشهيد قريناً في السنوات الأخيرة بالضحايا. وتنوّع الشهداء من ضحايا طوابير الخبز إلى التعذيب في أقسام الشرطة، حتى الهاربين في قوارب الموت إلى أوروبا.
أُقيمت معارك على لقب الشهيد، وكأن الموت العادي لم يعد يكفي لتحريك المشاعر وإثارة الغضب وإظهار بشاعة الجرائم.
الاحتجاج سار في اتجاه تكريس معنى واحد: «إنها حرب ضد الإسلام». حرب يخوضها المجتمع الألماني والدولة الألمانية. وهو معنيّ نابع من شعور عميق بالاضطهاد، ورغبة دفينة في دخول حرب كبرى ضد العالم.
وهذه رؤية بعين تخدم القاتل لا القتيلة. لأن التعصب والعنصرية هناك (حيث قتلت مروة) وهنا (حيث قتلت الجماعات المتطرفة عشرات السياح) هدفهما واحد: خلق مجتمعات نقية وقطع الجسور بين العالم.
تتكرر المعركة بطرافة أكثر في حملة إعلانات لقناة «ميلودي أفلام» ترفع شعار: «أفلام عربي و (....) أم الأجنبي». طرافة الإعلان لم تُلغِ رسالته، التي حوّلت التنافس التجاري بين الأفلام إلى عداء يشبه في طرافته سلسلة أفلام شهيرة في الستينات عن «مستر اكس» الأميركي وشبيهه المصري، الذي كان ينتصر في النهاية رغم سذاجته.
حملت الأفلام صورة عن الذات «القومية»، كما روّجتها بروباغندا الستينات في مواجهة أجنبي مجرم، بينما إعلانات «ميلودي» نوع من مداعبة لنرجسية نائمة تمزج طرافة الإعلان ودقة صناعته بالبذاءة اللفظية ضد الأجنبي.
الرسالة هنا ليست من صنع ماكينة الدولة بل أكثر الماكينات يقظة في المجتمع. ماكينة الإعلانات وإدارتها الماهرة في إيقاظ الصور المكبوتة عن المجتمع المهشّم، تبحث الإعلانات عن شيء جماعي تلعب عليه لتروّج سلعتها. كما تبحث الاحتجاجات عن الشيء نفسه. وكلتاهما تلعن «أم الأجنبي».

■«الهضبة» و«نجم الجيل»


وحدهما، تقريباً. يحتلان أفق القاهرة. معركة «الهضبة» و«نجم الجيل». هي تقريباً معركة انتخابية. مواقعها لوحات الإعلانات الضخمة وأجهزة التسجيل في سيارات الأجرة والميكروباص والتوك توك وسيارات الشباب في الطرق الصحراوية من العاصمة إلى مارينا. لجان التصويت في مراكز البيع. فرز يومي وبورصة أصوات حقيقية توضع في رصيد المتنافسين. «الهضبة» اسم سري أطلقه أهل «كار» الموسيقى على عمرو دياب. تامر حسني لم يحصل على اسم سري بعد، لكن الدعاية اختارت له لقب «نجم الجيل»، وقررت له الشركة المنتجة أن يخوض الحرب الصريحة مع «الهضبة».
إعلانات «الهضبة» في كل مكان بصورة تسترخي فيها عضلات نجم الغناء على كيس الرمل. استراحة محارب يبرز الوشم المرسوم على يديه كأنه رسائل غامضة أو قصص غريبة تحكي شيئاً ما.
«من هو عبد الله؟» سألت مراهقة عن الاسم الذي وشمه عمرو دياب على عضلته المنفوخه في ذراعه اليمنى. السؤال علامة على أن المراهقة ليست من «مهاويس» الهضبة. هؤلاء تصلهم الشفرات السرية بـ«خدمة توصيل إلى المنازل»، كما يعلق معجب قديم بقدرات عمرو دياب على نفي علامات الزمن. نجم سماوي. متعالٍ. خارج الزمن والواقع. تجمدت معاني كلماته عند رومانسية الثمانينيات. لم تتفاعل مع خطاب المراهقين. ظلت في مكانها. تتكرر وتعاد لتصنع حاجزاً غير مرئي يجعلها مثل تمتمات تصاحب موسيقى ظهور النجم الخالد. كلمات «نجم الجيل» تستخدم قائمة مفردات ومعاني مباشرة. كأنها تلحن حوارات تليفونية عارية من الخيال. صور جرداء في مواجهة صور صامتة. إتقان الخلود في مواجهة حيوية فارغة. الاستمرار منح عمرو دياب قوة ما، حجزت مكاناً يناوشه فيه تامر حسني بالخفة التي يرفضها الجيل القديم.
هكذا تبدو المعركة تصويتاً على شيء أكبر. على ذوق جيل ومفاهيمه عن الفن ودفاعه عن استمرارها في مواجهة «نجم جيل» يضرب هذا الذوق في مقتل.
الحرب هنا ليست نسخة من حروب السياسة. لكنها تعبر عن أن الحرب في السياسة بين «القديم» و«الجديد» هي جزء من عبور المجتمع لحظة بين لحظتين. لحظة تكونت بطريقة كاملة وكان فيها عمرو دياب الانقلاب العصري على أيقونة عبد الحليم حافظ (بينما محمد منير أيقونة مضادة لجمهور هامشي اتسع بذكاء). تتفكك هذه اللحظة الآن بكل مقوماتها. وعمرو دياب المختلَف عليه تتوحّد حوله قوى تشعر بالخطر من ذوق تامر حسني. التصويت في هذه المعركة علني. بينما في معارك أخرى التصويت غير مسموح به.
هل يعني شيئاً هنا أن عمرو دياب اكتسح تامر حسني في الجولات الأولى؟ هل هذه نبوءة؟