إلى أنهار
عندما استفقت أول أيام عيد الأضحى ووجدت إرسال هاتفي النقّال مقطوعاً، قلت «الله يسامح أنهار!». فهي راسلتني عشية العيد للتهنئة، وعادةً ينقطع إرسال هاتفي بعد وصول رسالة منها لثلاث ساعات على الأقل! كما أصبحتم تعلمون، أنهار من أهل الجليل المحتل، لكن ما لا تعلمونه أن سكان تلك المناطق بإمكانهم إرسال رسائل نصيّة على الهواتف اللبنانية، رغم أنهم لا يستطيعون استقبال شيء من هواتف لبنان!
ما يربطني بأنهار ليس فقط كتابات مشتركة، فنحن صديقتان من قبل ذلك بكثير، وكنّا قد خطّطنا للالتقاء عند بوابة فاطمة على الحدود اللبنانية ـــــ الفلسطينية. لكن مع الأسف باءت محاولاتنا بالفشل، فأنهار لا يُسمح لها كعربية بالوصول إلى الحدود، أما أنا، فبحاجة إلى «مية واسطة» للوصول إلى بوابة فاطمة. ومع ذلك لم نيأس، وقررنا الالتقاء الصيف المقبل في الأردن (فالجماعة هناك آخر همّهم إذا الباسبور إسرائيلي ولا سنسكريتي)، وبالانتظار، نتحادث يومياً على الإنترنت. لا أدري صراحةً ماذا سأقول لأنهار عندما ألتقيها، ربما سأتركها تسألني. لكن، ماذا لو سألتني عن وضع الفلسطينيين في لبنان؟ هل سأحكي لها قصة «الحاج أبو علي»؟ هذا الرجل هو لاجئ بحسب الإحصاء الأخير أربع مرات، من فلسطين إلى تل الزعتر، ثم إلى شاتيلا، ثم إلى نهر البارد، وأخيراً الى البدّواي! هل سأقول لها إننا ندعم قضية «أبو علي»، ونطالب بدخوله إلى كتاب «غينيس» لأنه سجّل الرقم القياسي باللجوء في فترة لا تتجاوز 70 سنة؟ ربما الأفضل أن أسألها عن «الطمرة» قرية أُمّي ومسقط رأس أنهار. لكنني أخاف أن تخبرني بما لا يسرّني، أو ما لا أتحمّل نقله إلى أمّي لاحقاً.
أخبرتها عن الشاب الذي تركني في شارع الحمرا بعد موعد سيّئ وغادر، وأخبرتني عن يومها الأول في الجامعة، ومعاناتها مع ضعف النظر، بحيث لا ترى جيداً ما يُكتب على اللوح. نتحادث في عالم افتراضي. تخطّينا الحواجز، ومع ذلك عند الواقع، لا أدري ماذا سأقول لفتاة تمثّل فلسطين في عالمي. أخيراً، إلى أنهار «بستنّى شوفتك على نار يا صبيّة. ومش مهم نحكي خيّتا، المهم أختصر فلسطين بعينيك، وتختصري لبنان بعينيّ، بستنّاكي».
إيمان بشير

إلى إيمان

كل صباح أستيقظ هنا في حيفا، متذكّرة أنني طالبة جامعية وأنّ عليّ أن أجدّ في الدراسة، وأُقلّل من ولوجي إلى العالم الافتراضي، هو أمر تساعدني عليه إيمان التي «تأمرني» بأن أخلد إلى النوم «حالاً» إذا كان الوقت قد تأخّر. ولأنّني أعرف أن كل ما في هذه «الدولة» مراقب، بما فيها الرسائل النصيّة، ولأنّني أعرف الكثير، وأهتمّ بالقليل، لم أفكر مرتين حتى أعايد إيمان برسالة نصيّة، وخاصةً أنّني لم أستطع التحدّث إليها في العيد! ما يربطني بإيمان ليس مجرد رسائل نصيّة، فهي صديقتي، رغم البعد، والاحتلال وكل شيء! ولكن برغم تغلّب صداقتنا على العوائق، لا يزال صعباً أن نكون كأيّ صديقتين عاديّتين. فحتى الآن لم أسمع صوتها أو أجلس معها. ورغم هذا، قررنا أن نلتقي. وبعدما فشلت محاولتنا الأولى جاء دور الثانية. وبرغم هذا، تظّل الشكوك تُطلّ من كل صوب! هل سأراها حقاً؟ أم سيوقفونني ويُعيدونني كما حدث مع رفاق آخرين؟ هل سيرون أن صداقتنا خطر على أمنهم؟ ولأنّني كما قلت أعرف الكثير، وأهتمّ بالقليل (وهذه صفة سيّئة جداً على فكرة) سأرى ما سيحدث. لا أفكر كثيراً في ما سنتحدث به. لأنّني لا أريد أن أُشعرها بالحزن لبعدها عن البلاد، أو بخيبة أمل بسبب الوضع هنا!
هل أخبرها عن انقساماتنا الداخلية؟ انقسامات حزبية وطائفية وعائلية (فلسطينيّي الـ48 لا حماس وفتح) لم يعرفها الفلسطينيون إلا أخيراً.
أم أخبرها عن «الصنيبعة»، ذاك المرتفع الذي تقع عليه «طمرة» (وأقول مرتفع لأنّني لا أعرف إن كان جبلاً أو تلّة) تلك القطعة من الجنّة، كما سمّاها سفير فرنسيّ لكنها مهملة بسبب السياسة العنصرية. هل أُخبرها أننا ممنوعون من قطف الصعتر البري، ما نسمّيه «شاياً وعراً» هناك؟ وأننا نشتريه منهم؟
لا، لن أُخبرها بكل هذا. سأحكي لها كيف نتغلب على انقساماتنا ونعود دائماً شعباً متماسكاً. سأحكي لها ما أخبرتني به جدتي، وكيف حضنت الصنيبعة أهل البلد حتى عودتهم إلى بيوتهم، وأقول لها إن الصنيبعة ما زالت تنتظر من لم يعودوا بعد، وستظل تنتظر! وإن الصعتر ما زال ينمو ويكبر في أرضنا وفينا!
نعم، حتى الآن لم ألتقِ إيمان. لكنّني أعرف أنّني سألتقيها وجهاً لوجه ذات يوم. سأحضنها بقوة لأحضن معها كل لاجئ، وأعرف أنها ستحضن فيّ كل ذرّة تراب من تراب فلسطين! إلى أن يأتي ذلك اليوم، سـأظل أُحادث صديقتي على الإنترنت، كأننا لا نبعد إلا شارعين.
أنهار حجازي ـــــ الجليل