تدخّل الحكومة يخالف الاتفاقيات الدوليةمحمد وهبة
تعهدت الحكومة في بيانها الوزاري بالعمل على «تحديث الهيكلية النقابية بما يعزّز وحدة العمل النقابي». هذا التعهّد أعاد التذكير بالماضي السيّئ الذي عانت منه الحركة النقابية منذ إنشائها، إذ إن البعض يرى أنه جاء ليكرّس التدخلات السياسية وأعمال «الضمّ والفرز» على نحو ينسجم مع مصالح القوى السياسية النافذة حالياً، فيما رحّب البعض الآخر بهذا التعهّد اذا كان سيسهم في تمكين النقابات العمالية من إعادة تنظيم أوضاعها بما يجسّد مصالح من تُمثّل.

هيكَلَة أم «دوزَنَة»؟

فالمعروف أن أقطاب السياسة في لبنان ظلّوا مولعين بلعبة السيطرة على الاتحاد العمالي العام، كجزء من اللعبة السياسية العامّة، ولا سيما أن الاتحاد العمالي تنضوي تحت عباءته كل الاتحادت النقابية تقريباً، وهذا ما أوجد رغبة دائمة في «دوزنة» تحركاته وفق إيقاعات محددة تمليها جداول أعمال القوى السياسية المهيمنة عليه. إلا أنّ هذه «الدوزنة» اقتضت دائماً شرذمة العمل النقابي واعتماد سياسة تفريخ النقابات الوهمية وإرساء توازنات معيّنة في كل نقابة وفي كل اتحاد نقابات... إذ إن الهيكلية النقابية الحالية تقوم حالياً على تنظيم «كونفدرالي» تتساوى فيه الاتحادات النقابية بالحقوق والواجبات، بمعزل عن حجم كل اتحاد ومستوى تمثيله، أي إن كل اتحاد يمتلك حصة تصويت متساوية في الاتحاد العمالي العام إذا كان يضم 100 عضو أو 1000 عضو، ما يعني أن القوى السياسية ليست مضطرة إلى تشجيع العمل النقابي في صفوفها، بل كانت تشجّع على قيام نقابات واتحادات نقابية خاوية ولا تمثّل من تدّعي تمثيلهم!
هذا الواقع دفع دائماً إلى المطالبة بوضع هيكلية نقابية جديدة تحدّ من تفريخ النقابات، إلا أن الإشكاليات التي اعترضت مثل هذا التوجّه كانت كبيرة، فالتدخّل الحكومي غير مستحب لكونه سيؤدي إلى حماية مصالح القوى السياسية الممثلة في الحكومة، فضلاً عن أنه يتعارض مع الاتفاقيات الدولية التي تسعى إلى حماية حرية العمل النقابي، فيما الاتحادات النقابية نفسها باتت تمثّل القوى السياسية نفسها التي تعارض وضع تنظيم موحّد ومختلف للهيكلية النقابية يتعارض مع أهدافها ومصالحها.
في الظاهر، الجميع متفقون على أن الهيكلية النقابية الجديدة تمثّل ضرورة تنظيمية، إلا أن التوافق على شكل هذه الهيكلية ومحتواها بدا مستحيلاً، إذ إن مثل هذا التوافق يقتضي الإجابة عن الأسئلة الصعبة: من يضع الهيكلية؟ هل يجب أن يكون هناك اتحاد نقابي واحد لكل قطاع أو لكل منطقة؟ ألا يتعارض ذلك مع حرية تأسيس النقابات؟ ما هي شروط تأسيس النقابات والاتحادات وانضمامها إلى الاتحاد العام؟ والأهم، ما هو دور وزارة العمل في كل ذلك؟

مخالفة للاتفاقية 87

يرفض رئيس الاتحاد العمالي العام غسان غصن أي تدخّل حكومي في شؤون النقابات الداخلية، ويصرّ على عدم المساهمة في أي نقاش لا ينطلق من مسلّمات أساسية ترمي إلى حماية العمل النقابي وحريّته وديموقراطيته، كما يصرّ على أن التنظيم النقابي هو من صلاحية النقابات وحدها، وبالتالي لا يمكن القبول بأي دور لوزارة العمل في هذا الأمر... وردّاً على سؤال عما إذا كان مستعداً للمشاركة في اجتماع يدعو إليه الوزير بطرس حرب لمناقشة اقتراحات معينة بشأن الهيكلية النقابية، أجاب غصن بـ«أن موقف قيادة الاتحاد العمالي واضح وحازم، إذ لا يجوز أن يتدخّل وزير العمل في الشأن النقابي الداخلي، فهذه مسؤولية النقابات وحدها، وهي المخوّلة بمناقشة أوضاعها».
هذا الموقف يلتقي مع ما أدلى به مسؤول النشاطات العمالية للفرع الإقليمي لمكتب العمل الدولي في بيروت، وليد حمدان، الذي رأى أن ذكر البيان الوزاري لعبارة «تحديث الهيكلية النقابية» هو مخالف للاتفاقية 87، إذ تقول المادة الثالثة منها: 1ـــــ لمنظمات العمال وأصحاب العمل حق وضع دساتيرها وأنظمتها، وانتخاب ممثّليها في حرية تامة، وتنظيم إدارتها ووجوه نشاطها وصياغة برامجها. 2ـــــ تمتنع السلطات العامة عن أيّ تدخل من شأنه أن يحدّ من هذه الحقوق أو يحول دون ممارستها المشروعة».

“العمالي”: لا يمكن القبول بأي دور لوزارة العمل في تحديث الهيكلية النقابية
ويلفت حمدان إلى أن هذه الاتفاقية تسمح للحركة النقابية بتحديث برامجها ودساتيرها وأساليب عملها، وذلك على عكس السنوات السابقة التي تؤكّد أن «سوء وضعنا النقابي اليوم سببه تدخلات وزارات العمل»، وبالتالي فإن الهيكلية وتغييرها يجب أن تخضع للإرادة العمالية لشروط ومعايير محددة.
والمقصود أن مبادرة وزير العمل إلى وضع الهيكلية ستفسح المجال أمام أي وزير للعمل لتغييرها كما تناسبه! إلا أن الخبير في الشؤون النقابية وعضو المركز اللبناني للتدريب النقابي، غسان صليبي، يلفت إلى أن ما ورد في البيان الوزاري للحكومة يشبه كل البيانات السابقة لجهة الهيكلية النقابية، ولكن الأمر غير الواضح بعد هو خلفية اهتمام الوزير بطرس حرب بهذا الأمر. ففي الواقع «تُعدّ السلطة متدخلة في الشؤون النقابية إذا حدّدت للنقابات والاتحادات قانون تأسيسها... لكن بإمكانها تبنّي اتفاقية الحرية النقابية الرقم 87 التي اعتمدها المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية في 1948، وترك الهيكلية للمعنيين، أي أعضاء النقابات وحدهم».

اتفاق

تجدر الإشارة إلى أن قيادة الاتحاد العمالي العام والمعارضة النقابية متفقتان على أن تحديث الهيكلية أمر ضروري لإعادة تنشيط الحركة النقابية، إلا أن أيّاً منهما لم يصدر موقفاً رسمياً من تبنّي وزارة العمل في البيان الوزاري لموضوع «تحديث الهيكلية النقابية بما يعزز وحدة العمل النقابي»، وذلك على الرغم من أن الوزير حرب ذكر هذا الموضوع خلال لقائه مع قيادة الاتحاد، إذ أشار إلى ضرورة «التعاون المشترك لنصل إلى صيغة لتعزيز العمل النقابي».
بعض الأطراف يخشى من أن يعمد حرب إلى تكرار تجربة الوزير عبد الله الأمين في السعي إلى إدارة النقابات مباشرة وإمساك قرارها، ولا سيما أن الاتحاد العمالي في تركيبته الراهنة يقف على الجهة الأخرى في السياسة وتسيطر عليه قوى سياسية لا يحبها حرب ولا هي تحبه!


مؤسسات ثلاثية التمثيل

يخشى عضو هيئة مكتب الاتحاد العمالي، فضل الله شريف (الصورة)، أن لا يقتصر تدخّل السلطة على مسألة تحديث الهيكلية النقابية، بل أن يتجاوز ذلك إلى الإمساك بقرار تسمية العمال لممثليهم في المؤسسات الثلاثية التمثيل، مثل: الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (10 ممثّلين عن العمال في مجلس إدارته)، مجالس العمل التحكيمية التي تمثّل الخيار الأول للعمال المصروفين من العمل ولقضايا العمّال، ومجلس إدارة المؤسسة الوطنية للاستخدام... وقال إن الملفات المطروحة من قبل الحكومة قد تتطلب إسكات صوت العمّال!

500 مليون ليرة


هي قيمة مساهمة الدولة في موازنة الاتحاد العمالي العام السنوية، وهذا قد يكون أحد الأبواب التي تسمح لوزير العمل بالضغط على قيادة الاتحاد، وهو ما تكرر سابقاً، وأدّى إلى تراكم 1000 مليون ليرة لم تُحوَّل إلى الاتحاد في أوقاتها