من يحكم مصر؟ السؤال صعب في أقدم دولة مركزية في التاريخ. الرئيس مريض وهو «كل» النظام. والبلد الذي كان ينتظر التغيير أصبح ينتظر الآن نتيجة التحاليل الطبية، ومعرفة من سيخرج من خلفها ليعلن أن الدولة مستقرة؟
وائل عبد الفتاح

تمرين على الغياب في بلد الاستبداد



ظهر الرئيس. صورة بلا صوت أولاً. ثم وهو يتحدث في الهاتف مع مفوضه ورئيس حكومته أحمد نظيف. وقّع قرارات وقرأ الصحف التابعة لنظامه. ولمس النظّارة الطبية وسمع الشعب صوته وشاهده وهو يعيّن شيخ الأزهر الجديد من غرفته في المستشفى الألماني. تبدو هذه عودة للرئاسة صوتاً وصورة. ورسالة تقول إن الرئيس يتعافى من جراحة «المرارة». صورة الرئيس فعلت فعلها وقامت البورصة بعد انهياراتها. كما استعادت مؤسسات الدولة نفسها من «صدمة» انتشار شائعات عن وصول مبارك إلى مرمى الغروب بعد حكم طويل.
صحف حراسة النظام ارتبكت والتلفزيون الرسمي صدرت له تعليمات سرية بتجهيز ٦ ساعات قرآن كريم في كل قناة. والهواتف سخنت بقوة. لم يكن السؤال: ماذا حدث للرئيس؟ السؤال كان: ماذا سيحدث لمصر؟ من يحكم مصر؟ هل هناك مؤسسات أم أن الصراع الآن على «مشروعية» ما بعد مبارك؟
رفض الرئيس حسني مبارك أن يعرف المجتمع مسار المشروعية بعده. كأنه خالد أو حكمه سيستمر إلى الأبد عبر تجليات أو نسخ أخرى لا تنتهي.
هذه الرغبة الطاغية في الاحتفاظ بمفاتيح «المشروعية» وضعت مصر في حالة طوارئ مع سفر الرئيس للعلاج واستئصال المرارة، التي تحوّلت إلى ما يشبه «تمريناً على الغياب».
التمرين على الغياب دفع الدولة والمجتمع إلى حالة تأهب وترقّب.
ماذا سيحدث إذا غاب الرئيس فجأةً؟ الغياب حالة إنسانية عادية. وفي السياسة توضع قواعد لإدارة البلاد. قواعد لها صدقية وفعالية ليست كسابقتها وليست مجرد نصوص شكلية فارغة تُكتب للاستهلاك وصنع واجهات ديموقراطية.
هناك قواعد جديدة لانتخابات الرئاسة مثلاً، لكن ليس لها وجود مادي في الواقع. القواعد تشترط أن يكون المرشح منتمياً إلى هيئة عليا في حزب «شرعي». هذه قاعدة صحيحة بشكل مطلق. لكن في ظل تحكم الدولة في تكوّن الأحزاب وقدرتها على تدجينها بعد «فعصها» لتصبح مجرد ديكور للنظام، فإن هذه القاعدة تصبح نوعاً من «الدجل السياسي» للإيهام بوجود ديموقراطية أو للاستبداد باسم الديموقراطية.
نظام مبارك قدّم إلى العالم اختراعه: الاستبداد بالديموقراطية. كيف تحكم دولة إلى الأبد وباختيار الشعب؟
لهذا صنعت شائعة الرئيس تأثيراً أكبر من حجمها. وتابعت وسائل الإعلام إيقاع ظهور الصوت والصورة الرئاسية. واضطرت الدولة إلى الاستعانة بصورة الرئيس لتعود إلى حالة استقرار.
الرئيس يجسّد كل شيء. وتقريباً هو تلخيص لدولة يأكل فيها الاستبداد الأخضر واليابس.
من الممكن أن يتوه خبر رحيل أستاذ الفلسفة الشهير الدكتور فؤاد زكريا في زحمة متابعة أخبار أحمد عز وصفوت الشريف وجمال مبارك.
ومن يسمع الفلسفة في زمن الانحطاط السياسي؟ الفلسفة لشعوب أكل الاستبداد، بكل أنواعه، عقلها وروحها؟ هي مجرد «كلام فارغ». الفلسفة هي طلب المعرفة ومحبة للحكمة. ولا تطلب هذه الأشياء عادةً والاستبداد يمرح.
الفلسفة والعلم والحكمة والمعرفة، أشياء عزيزة أصحابها يشعرون بالعزلة وبأن وجودهم هامشي وأسئلتهم عن الوجود والحياة لا تهم مجتمعات لا تزال تعيش في غيبوبة الاستبداد ولقمة العيش والدروشة والسير وراء الفتاوى الجاهزة لكل عصر ولون، من دخول الحمام بالرجل اليمنى إلى تحريم استخدام «جوزة الطيب» في الطعام.
كل هذا يملأ الفراغ ولا يترك مكاناً لأشياء أخرى لا تكتسب قيمتها من الاستهلاك أو تلبية الحاجات. المعرفة غريبة هنا. والفكر مرض يستحق التعزية لمن أصيب به. يقولون له: «مسكين يا بني. أنت عندك فكر».
وهكذا مات فؤاد زكريا غريباً في بلد تحت حكم «المستوى المتوسط». لم يشعر أحد هنا بأنّ الرجل الذي وهب عمره ليدافع عن قيمة العقل رحل في الزحمة، وببعض الرثاء فقط. وهذه إشارة أخرى إلى أن مصر تعاني تدهوراً في المستوى وانهياراً للجودة.
فؤاد زكريا لم تنقصه جرأة خوض المعارك الكبيرة مع نجوم لهم شعبيتهم مثل الشيخ متولي الشعراوي والكاتب الصحافي الأشهر محمد حسنين هيكل.
لم تكن معارك شخصية. ولا على مواقع في السلطة السياسية أو الإعلامية أو جرياً وراء ثروة أو شهرة. ومجرد النظر إلى المعارك وأطرافها ومقارنتها بمعارك هذه الأيام يمكن معرفة لماذا رحل فؤاد زكريا غريباً؟ وماذا فعل الاستبداد في الروح؟ أكلها. مصّها بالتدريج.
بإزاحة الفكر والجمال والقيم الكبرى إلى الهامش واستبدالها بكل ما هو تافه ورديء وأقل في المستوى.
لكي تنجح وتصيبك الشهرة وتصعد سلّم الثروات لا بد أن تكون بلا قيمة ولا تحترم العقل ولا التفكير. لا بد أن تكون استعراضيّاً ماهراً في «خناقات الشوارع».
هناك استثناءات مرت بصعوبة من قانون «الاختيار للأسوأ». لكنني أتحدث عن القاعدة التي حوّلت مصر إلى صحراء جرداء. تجد فيها القيم المحترمة على طريقة التنقيب عن النفط.
والمقارنة ضرورية. والنظر إلى المسافات الشاسعة بين الاحتفاء بشخص مثل فؤاد زكريا وهب حياته للعقل والحرية، والاحتفاء بشيخ الأزهر الذي، مع كامل الاحترام لمجهوداته في التفسير، ارتضى نصيب الانضمام إلى قائمة فقهاء السلطان. الفتاوى رائجة في الحياة والسياسة. إنها بضاعة يستهلكها مدمنون متعصبون يرتضون من الحياة العبادات والدين الشكلي.
هؤلاء هم تجسيد اليأس الذي يريد أن يشتري قصراً في الجنة، بعدما فشل في الحياة بسعادة أو بقيمة إنسانية كبيرة.
هذا أقسى أنواع اليأس الذي يتوّج معه الحاجة إلى من يبيعون الأوهام أمام الشاشات وفي المساجد. أوهام تغيّب العقل وتجعل الإنسان فريسة سهلة للاستبداد وسنينه الطويلة.
بين تمرين الغياب وانتشار الاستبداد وتغييب العقل، لا تزال مصر تنتظر لحظة الانتقال الحرجة، والإجابة عن السؤال اللغز: من سيكون الحاكم التالي؟

البحث عن مراكز القوى



في غياب الرئيس يبدأ البحث عن «مراكز القوى» التي تتحكم في مفاصل البلد. هذا ما حدث مع رحيل جمال عبد الناصر، وهو قائم حالياً في ابتعاد مبارك، لكنه غير واضح المعالم

هل هناك مراكز قوى في مصر؟ تعبير مراكز القوى ظهر للمرّة الأولى في صراع أنور السادات مع مجموعة موظفي عبد الناصر. السادات أعجبه الوصف الصحافي لخصومه. وأوحى له بتحويل الصراع على السلطة إلى «ثورة تصحيح».
الصراع تحوّل إلى تصحيح للثورة، لكنه نُسي تماماً مع اختفاء السادات، وقبله الثورة من عقل النظام السياسي.
لكن مراكز القوى لم تختفِ. لا تزال موجودة بأشكال عصريّة. النظام المعتمد فقط على الرئيس لا بد أن تظهر له مراكز قوى تتمتع بالسلطة المفرطة في حضور الرئيس، لكنها تتحول إلى أول صيد في صراع السلطة. السلطة في مصر ترتبط بالصراع السري... حتى الآن. وهذا ما يجعل البحث، في حالة غياب الرئيس، عن «مراكز القوى»… وعن من يحكم؟ هل الحاشية أم مجموعة الموظفين العابرين للعصور، الذين وجدوا في طبيعة نظام مبارك كل الحظ؟ أم الحزب، الذي كان منتخباً للباحثين عن نصيب في «كعكة» البلد وتحوّل في السنوات الأخيرة إلى منصة يصعد عليها جمال مبارك، الحالم المرتبك بكرسي أبيه؟ أم العائلة بكل ما فيها من أسرار وغموض ومجموعات موظفين يرتبط كل منها بطرف من العائلة؟
يبقى من مراكز القوى جنرالات يعيشون في الخفاء يتصور المصريّون أنهم يديرون كل شيء ويملكونه. وهؤلاء مراكز افتراضية أو «لهو خفي»، لأن الشعور بهم أقوى ألف مرة من حضورهم الفعلي. يبقى أيضاً من يسمون «رجال أعمال»، وهم مجموعة واسعة من أصحاب الثروات التي تكوّنت في مرحلة احتاج فيها مبارك إلى اختيار أشخاص يمنحهم الثروة لتكون «تحت السيطرة».
هل بين هؤلاء من يصلح لأن يطلق عليه «مراكز قوى»؟ يعتقد البعض مثلاً أن الملياردير أحمد عز يصلح لأن يكون ضمن «مراكز القوى». وهذا اعتقاد يحتاج إلى مراجعة، لأن أحمد عز سيكون ضحية كبيرة إذا حدثت انقلابات درامية أو إذا بحث النظام الجديد عن ضحايا يقول بها إنه أنظف ويختلف عن النظام السابق.
قوة أحمد عز في اللحظة الراهنة هي في أنه يدير مجموعات مصالح متباينة، بلا مشروع سياسي وبشهوة مفرطة في السلطة لتكتمل ثنائية السلطة والثروة التي يحلم بها ليكون مثل سيلفيو برلوسكوني في إيطاليا.
وبرلوسكوني هو عار إيطاليا ونظامها الديموقراطي وعلامة على «فضيحة» سياسية، لكنه نتيجة نظام مستقر في العلاقة بين السلطة والمجتمع. من الممكن أن يظهر فيه رأس المال مركز قوة.
لكن الثروات في مصر تتكوّن بالاقتراب من السلطة ولهذا ستظل تابعة إلى أن يتغير النظام. وستظلّ قوتها ناقصة ومراكزها أهداف يتحالف معها النظام الجديد أو يستهدفها.

سيناريو انتقال وهمي



هناك بالتأكيد مجموعة ضيقة تحدّد مصير مصر. تحدده الآن، في ظل الغموض الذي يصاحب حال الرئيس، والتردد بين ظهوره كصورة فقط أو صوت فقط.
كيف تفكّر هذه المجموعة؟ وما هي القوة التي تعمل حسابها؟
لدينا هنا مرجعيات محدودة لمعرفة إلى أين سيذهب تفكير هذه المجموعة. أولاً سنخمن أن المجموعة هي مجلس الأمن القومي، أو شيء شبيه.
وثانياً هذه المجموعة لن تكون وحدها غالباً، ستتفاهم مع القوى الدولية والإقليمية. تفاهم سيختلف عن المرات السابقة وسيعتمد على دخول عناصر إضافية لحسبة: من يحكم مصر؟
وهناك أكثر من عنصر أضيف خلال حكم مبارك الطويل.
الجديد والمؤثر هو «قوة المجتمع»، التي تتحرك بخطوات مرتبكة، لكنها تتجه إلى الثبات. هذه القوة كانت غائبة تماماً، ولم تصل إلى أن تكون رقماً أساسيّاً في معادلة «اختيار الرئيس»، لكنها قوة ستوضع في الاعتبار وستؤثر في الاختيار وستكون ورقة ضغط ومفاوضة بين القوى الدولية والقوى الكبيرة في مصر.
القوة التي أضيفت في عصر مبارك هي «أصحاب المال». هذه القوة يحسب لها حساب الآن، وإن لم تتحول إلى «رقم كامل» في المعادلة. لكنها تكتمل بالإضافة إلى قوى أخرى مثل «الحزب الوطني» وحرسه القديم والجديد أو «عائلة مبارك».
وهذه الشريحة من أصحاب المال مهمة لتسيير أحوال البلد لا لتحقيق تنمية اقتصادية ولصناعة شريحة مستفيدين.
هذه الشرائح مهمة الآن لتحقيق الاستقرار في أول أيام «العهد الجديد». ومن المطلوب إرسال رسائل اطمئنان إليها لكي لا تبدأ حملة «هروب رأس المال». وغالباً ستكون الرسالة هي عدم المساس برموز هذه الشريحة، وليكن على رأسهم جمال مبارك، الذي ستكتفي الترتيبات الجديدة بإزاحته عن حلم الرئاسة مع إبقائه فاعلاً لفترة في الحزب. وهنا تكون الرسالة مزدوجة، واحدة إلى المجتمع بأنّ حلم التوريث فشل والثانية إلى رجال المال وهي أن «مندوبهم في النظام» لم تجرِ إطاحته تماماً. في المقابل سيكون على الاسم المختار أن يكون مستقلاً بعيداً عن الأحزاب. وسيكون عليه تقديم وعود بتعديلات (أو ربما تغيير) الدستور، بما يضمن التقدم في الإصلاح السياسي.
والوعد يعني كسب الوقت لإحداث تغيير في المناخ السياسي بما يضمن إعادة بناء الحياة الحزبية، وإزاحة رموز القمع والفساد إلى درجة ما. وهذا يضمن إبعاد «الإخوان» المسلمين عن المشاركة في الحكم لا غيرهم.
هذا هو السيناريو السلمي الهادئ من وجهة نظر متخيلة لعقلاء هذه المجموعة الصغيرة.
من سيكون الشخص المختار؟ هل يفكرون بهذه الطريقة؟