«لن نتخلّى عن هويّتنا البدويّة، ولن نعيش من دون كرامة»وائل عبد الفتاح
المتحدث ليس عادياً. إنه هارب من الأمن يتحدث في خيمة بدوية منصوبة على هضبة في صحراء سيناء، كأنه في مؤتمر صحافي يذكّر بمؤتمرات «القاعدة» والملا عمر، تنقصه قنوات فضائية تنقل مشهد الصراع المتكرر بين دولة حديثة وجماعات منبوذة لأسباب تتعلق بالزمن السياسي.
مصر كانت بعيدة عن هذا النوع من الصراعات إلى حد ما، في حضورها كدولة مركزية، وقدرة مطاطة على مد خيوط مع الجماعات المختلفة عرقياً واجتماعياً ودينياً. سبيكة (سوار متشابك) الدولة في مصر عتيقة، والخربشات حولها نادرة وتحت السيطرة. لكن يبدو من المشهد في سيناء أن خيوطاً تتفكك من السبيكة. هل تحول بدو سيناء إلى «جماعة منبوذة» خارج الزمن السياسي للدولة؟
سالم الدلح، المتحدث في مؤتمر الخيمة، أعلن مطالب محددة: محاكمة ضباط الشرطة، اسقاط الأحكام الغيابية، وخطة تنمية لسيناء.
الزعيم الهارب لم يكن ملثماً. كان في بقعة احتقان. لم يكن غريباً فيه إعلان مطالب من نوع: «لن نتخلى عن هويتنا البدوية، ولن نعيش من دون كرامة». هذه مقولات زعماء «مطاريد» البدو الذين يقودون «ثورة» على النظام.
المطلب المهم هنا هو رفع الحصار الأمني والإفراج عن المعتقلين، أو «أسرى الحكومة»، وفي مقدمهم مسعد أبو فجر، المعتقل من دون تهمة منذ ٣ سنوات، رغم نداءات منظمات المجتمع المدني في مصر والعالم.
قفزة ملحوظة من «الغضب» العشوائي إلى «الحرب شبه المنظمة»، من عصابات «المطاريد» في مخابئ سرية في جبال سيناء إلى حرب على الطريقة الأفغانية، حيث جماعات متمردة بأسلحة بدائية في مواجهة سلطات منظمة. لكنها سلطات تجهل دروب السيطرة على جغرافيا لا تزال غامضة وعسيرة.
الجغرافيا تلعب لمصلحة المطاريد. والدولة حائرة بعد استنفاد محاولاتها القديمة في السيطرة على قبائل سيناء من خلال أصابعها الحكومية، المتمثلة في المشايخ والنواب. الأصابع احترقت إلى حد لم تعد معه مؤثرة، كما بدا من النتيجة السلبية التي خرج بها اجتماع نواب البرلمان ورؤوس العائلات ومشايخ القبائل مع وزير الداخلية حبيب العادلي، الذي أعاد خطاب المجاملات التقليدي، قائلاً «مصالح أبناء سيناء تمثل أولوية لدى القيادة السياسية للدولة».
لم يعد اجتماع المجاملات كافياً. والمشايخ الحكوميون لم يعد لديهم ما يقدمونه بعدما انتقلت القيادة إلى من يسميهم وزير الداخلية «عناصر إجرامية» أو «القلة المنحرفة الخارجة عن القانون»، كما يسميهم محافظ شمال سيناء مراد محمد موافي، وهي تسميات أمنية لم يتدخل سياسي واحد من الدولة لتعديلها أو طرح صورة بديلة لما يحدث في سيناء التي استعادتها الإدارة المصرية نهائياً في عام ١٩٨٩، وظلت من يومها ترتبط ارتباطاً صعباً مع جسد الدولة، وخصوصاً أن جنوبها أصبح مقراً شبه دائم لرئيس الجمهورية، ما عزز سطوة الحس الأمني. ومع غياب حس الدولة، تضخم سوء التفاهم وغابت خطة التنمية، ووصلت البطالة إلى نحو ١٠٠ في المئة.
فراغ سياسي قاد إلى حرب ثأر وإرادات مع الجهاز الأمني الذي تطالب عصابات «المطاريد» برحيله عن سيناء واستبداله بالاستخبارات. وهو إعلان ولاء وتحييد لأجهزة في الدولة، وإشارة إلى فشل الشرطة في تحقيق الأمن بعدما انتقلت المواجهات مع الدوريات الأمنية إلى محاولة تفجير خط الغاز العربي المتوجه إلى الأردن وسوريا، وتوقف ضخ الغاز بالفعل عدة ساعات عاد بعدها إلى الوضع الطبيعي، بحسب تصريحات محافظ شمال سيناء.
هذه التصريحات نفسها أثارت أهل سيناء عندما وصف المحافظ الهاربين من الشرطة بأنهم «خارجون عن القانون»، وهو ما يعتبره البدو تغاضياً عن الواقع.
الشرطة في الواقع تتعامل بثقافة واحدة مع بقية المدن المصرية، وتحتجز نساء البدو لإجبار الهاربين على تسليم أنفسهم، ما يعتبره البدوي اهانة لمحرماته واعتداءً على كرامته.
هذا سر عداوة تكبر مع الزمن بين الشرطة والبدو، دفعت عناصر مخلصة مثل سالم لافي، الذي استخدمته الأجهزة الأمنية في فرض نفوذها، إلى التمرد والهروب من سيارة الشرطة، ليصبح أسطورة تعيد إلى الذاكرة المصرية سيرة أدهم الشرقاوي، قاطع الطريق وابن الليل، الذي أنشد المداحين بطولاته في مواجهة الإنكليز والإقطاع قبل الثورة.

سالم لافي، الذي استخدمته الأجهزة الأمنيّة، أصبح أسطورة تعيد إلى الذاكرة سيرة أدهم الشرقاوي

لافي أسطورة البدو، يقود الآن حرب شبه منظمة يطالب فيها برحيل الشرطة، معلناً هو وزملاء له، أنهم سيعلّمون مصر كلها الثورة. وبواسطة رسائل منقولة من المخابئ السرية، تحدث زعماء مطاريد البدو عن انتهاء مرحلة استخدامهم ممسحة لأوساخ الداخلية، رافعين راية الكرامة، ومهددين بإشعال سيناء انتقاماً لحملات الشرطة واعتقال النساء والأطفال، في ما يراه متمرد هارب مثل سالم الدلح «تجاوزاً للخطوط الحمراء».
الدلح يشير إلى حملة استهدفت قرية وادي العمرو، بحثاً عن سالم لافي والمطاريد، وهي حملة حرقت صدقية المشايخ الحكوميين الذين وعدوا بعدم الاقتراب من بيوت البدو، وكشفت أيضاً خدعة «الهدوء» الأمني الذي سبق عواصف أخرى أرادت الأجهزة الأمنية من خلالها فرض سطوتها والقبض على سكان المخابئ، لفرض هيبتها، وإن كانت على حساب الأمن والاستقرار في سيناء.
حرب المطاريد تتزامن مع حرب اتخذت من قصة قتل خالد سعيد رمزاً لفضح مؤسسة التعذيب المنظمة داخل جهاز الشرطة، وهو ما يشير إلى حالة غليان شعبية تتركز غالبيتها ضد السلطات الأمنية، ما ينذر بصدام قريب، قد يكون تخليصاً لفاتورة حكم مصر بالأمن فقط، أو بمعنى أدق، فاتورة سيطرة الجهاز الأمني على الحكم في مصر.