غزة | على مدار 45 يوماً تقريباً، لم يتذوق فادي بكر طعم الراحة، ولم يرَ أشعة الشمس أو ضوء القمر، كما لم يشاهد والديه وشقيقاته. كانت حياته عبارة عن ضرب وشبح وتعذيب. عيناه معصوبتان، وجلسته طوال الوقت تشبه القرفصاء، والدماء تسيل من أذنيه لسماع موسيقى «الديسكو»، أما ساقه، فقد انفجرت من شدة التعذيب بالكهرباء.فادي بكر (26 عاماً) تعرّض لأبشع أنواع التعذيب الجسدي واللفظي، من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي في مراكز الاعتقال، وسجن «سيدي تيمان»، بعدما اعتُقل في تل الهوا غرب مدينة غزة في 5 كانون الثاني 2024، خلال بحثه ومجموعة من أصدقائه عن الطعام والشراب، للتغلب على المجاعة التي ضربت أطنابها مدينة غزة وشمالها.
قبل عام تقريباً، أنهى فادي دراسة الحقوق في إحدى الجامعات الفلسطينية، وحصل على شهادات عالمية في حقوق الإنسان، وأدرك أن دراسته تلك لم تشفع له مطلقاً، فما درسه من بنود تحفظ كرامة الإنسان، لا يُطبق على الفلسطينيين.

بداية العذاب
بدأت رحلة عذاب فادي يوم اعتقاله: «في اليوم الخامس للحرب قُصفت شقتي، واضطررت للنزوح إلى إحدى مدارس الإيواء، وعندما اشتدت المجاعة، عدتُ إلى شقتي بحثاً عن بعض الطحين والحاجات، إضافة إلى ذهب زوجتي». غادر منزله على عجل، المنزل الذي جمعه إلى زوجته التي ارتبط بها قبل شهرين فقط من اندلاع الحرب. ابتعد عن بيته نحو نصف كيلومتر فقط، إلى مفترق الدحدوح، وقد كان بجانبه ثلاثة أشخاص، فجأة سقط أحدهم على الأرض، ليسمع بعدها صفير الرصاص المنهمر فوق رأسه، أصيب بقدمه، فبدأ يزحف على بطنه، أما الشاب الثاني، فسقط على الأرض ونطق الشهادتين، بينما الثالث، تمكّن من الهروب مع فادي إلى عمارة سكنية قرب مفترق الدحدوح. صعد الشاب إلى الطابق الأول، أما فادي، فقد زحف واختبأ في حفرة صغيرة ملاصقة لأحد أعمدة العمارة السكنية. لم يتوقف صوت الرصاص الآتي من الآليات العسكرية التي كانت حينها، «طائرات كوادر كابتر، ودبابات، وناقلات جند، وجيبات عسكرية» أحاطوا بالعمارة السكنية، وصوت أحد الجنود ينادي بالعربية: «سلّم حالك، اطلع من هون!».
لم يستجب فادي لنداءات جنود الاحتلال المدجّجين بالسلاح والمتفجرات، بسبب الخوف والرعب اللذين أصاباه، فاستمر في الجلوس أسفل عمود العمارة السكنية، وصوت إطلاق النار، وصراخ الجنود لم يتوقف، لأكثر من 15 دقيقة.

الجفاف كاد يقتلني فسلّمت نفسي
بعد تلك الحادثة المرعبة، ساد الهدوء مدة 4 ساعات تقريباً. لكن فادي كان يموت في كل ثانية، يتذكّر تلك اللحظات، بالقول: «أنا مصاب في قدمي وبطني، والدماء كانت تسيل بكثرة من جسدي، وفي هذه اللحظات كنت بدي أموت، إن لم أمت من رصاص الاحتلال، فسأموت من الجفاف، لذلك قررت أن أسلّم نفسي، ليقتلني الجنود وأتخلص من العذاب الذي أنا فيه».
تعمّد فادي إظهار كتفه من خلف عمود العمارة السكنية، ليصبح مكشوفاً للجنود الذين هرعوا للمكان بسرعة فائقة، «أضاؤوا نحو عشرين ضوء ليزر على جسدي، وأحدهم يقول بالعربية: "اوقف". مباشرة جرّدني من جميع ملابسي الخارجية والداخلية، وربط قدمي ويدي بمرابط بلاستيكية»، يكمل فادي: «صراخ وعويل وصوت رصاص كثيف بالقرب مني، لبث الرعب والخوف في قلبي. أحد الجنود يحمل حقيبة على ظهره، ويتدلى منها هاتف محمول، يسير ببطء نحوي، وصوت جندي يخرج من سماعة الهاتف متسائلاً: "وين النفق؟!"، أُصبت بالصدمة والغرابة، وأجبت فوراً "أنا مدني". رفض الجندي إجابتي، وهدّدني "إذا حكيت كلمة وحدة مع الجنود سيتم قتلك، تحكيش ولا كلمة حتى تصل عندي"».

بداية العذاب
هنا بدأت رحلة العذاب الأليم، ومرحلة جديدة في حياة فادي، ضربة قوية تلقّاها في بطنه، وأخرى على رأسه، وثالثة على قدميه، ثم جاء أحدهم وأغمض عينيه بملابسه. لم يتمكن من الوقوف، فهو مصاب، ويتلقى اللكمات والضربات في كل ثانية: «أحدهم رفع ذراعي وربطها في الشاحنة من الخارج، والجندي الذي كان يقود الشاحنة، تعمّد السير في الطرق الوعرة، محاولاً إحداث شروخ في أنحاء متفرقة من جسدي، ولا سيما في رأسي الذي يُضرب بحديد الشاحنة». رحلة التعذيب هذه، استمرت نحو 10 دقائق، بمعنى «إننا ما زلنا في غزة».
توقفت الشاحنة، وأزيلت العصبة عن عيني فادي، وبأداة حادة قُطع المربط البلاستيكي، «سقطت على الأرض، تحوّل المكان إلى بركة دماء». آلام وصرخات فادي من الوجع، لم تشفع له، سحبه الجنود صوب خيمة زيتية اللون، تتوسطها طاولة، تحتوي على ثلاثة هواتف، ويجلس خلفها جندي مدجّج بالسلاح.

الجثة المتحلّلة
يصرخ الجندي بأعلى صوته: «من أي نفق انت اطلعت؟ من المسؤول عن الخلية؟ اعترف!»، حالة من الصدمة والذهول أصابت فادي الذي أجاب على الفور: «أنا اسمي فادي بكر، مدني، ليس لي علاقة بالأحزاب، أنت تعلم عني أكثر من نفسي».
قضى ساعات قليلة داخل الخيمة، قبل أن تصل دبابة إسرائيلية لتقوده مغمّض العينين، إلى مكان آخر، يشبه «الشاليه». طلب منه الجندي النوم على الأرض، فاستجاب فوراً، يقول: «رائحة كريهة تخنقني» وعن بعد 10 أمتار، طلب منه إزالة العصبة عن عينيه، وهنا كانت الصدمة القاسية جداً، «كنت نائماً على جسد متحلل ممتلئ بالديدان»، أطلق الجندي النار حول جسد فادي، وهنا أدرك بأن الجندي لن يقتله، كانت استفساراته فقط: «أين النفق؟ من المسؤول عن الخلية؟».
يضيف: «عندما صارت 11 ليلاً تقريباً، وصل جيب إسرائيلي إلى المكان، وأجبرني على الجلوس في الكرسي الخلفي. لأول مرة في حياتي أجد رأسي بين أصابع قدمي من كثرة الضرب الذي تلقيته».
الجيب العسكري، نقل فادي فعلياً إلى مرحلة جديدة من التعذيب القاسي، فطوال الوقت، ظل معصوب العينين، ومربوط اليدين، والدماء تنزف من جسده. وعندما وصل إلى أحد البركسات، التقى بطبيب يرتدي الزي العسكري، فأدخله غرفة الجراحة، «لم يكن هناك تخدير للجسد. استخدم الطبيب نظام الكوي المؤلم جداً، ووضع لي محلولين فقط. أعادني الجندي إلى كونتينر داخل بركس كبير، وطوال الوقت كنت جالساً على كرسي مربوط وعليه رقم السجن». هنا يُشير فادي إلى أنه لم يدرك اسم السجن إلا بعد الإفراج عنه، وتسريب بعض الصور التي حُفرت في ذاكرته: «هذه المشاهد وما ستتم روايته الآن، كانت داخل سجن سيدي تيمان».

بركس الديسكو
في سجن «سيدي تيمان» نظام خاص للحياة هناك، قائم على التعذيب الشديد. يبدأ النوم في السجن عند العاشرة مساء، ويستمر حتى الرابعة فجراً، والجلوس يكون على الركبتين. مكث فادي في «الكونتينر» مدة يومين، بعدها تمّ نقله إلى التعذيب الأعنف. وهو كونتينر يسمى «الديسكو»، بقي فيه أربعة أيام، ويصف ما حدث له هناك: «جرّدوني من ملابسي بالكامل، وأجبروني على النوم على الحصى في درجات حرارة باردة جداً، إضافة إلى تشغيل مراوح لتزيد من برودة الطقس، وفوق رأسي كانت سماعة كبيرة تحدث ضجيجاً يصل إلى نحو كيلومتر، كما وضعوا العصا على أعضائي التناسلية». عندما عادوا إليه، وجدوا الدماء تسيل من أذنيه، وقد أصيب بثقل وتضخم في أعضائه التناسلية، سحبه الجنود إلى غرفة التحقيق من جديد: «ما اسمك؟ أين تسكن؟ ما أسماء جيرانك؟ أين الأسرى؟ أنت شاركت في 7 أكتوبر؟»، وكان جواب فادي واحداً لم يتغير: «أنا مدني، لا أنتمي إلى أي حزب أو فصيل».
وأثبت فادي بعد وقت للمحقق عدم مشاركته في «7 أكتوبر» عندما عرض عليه صورته في هاتفه المحمول، ووقوفه على «طابور» الخبز، عند أحد المخابز لحظة «الطوفان». إثبات فادي بالصورة، دفع الجندي للغضب أكثر، فقام بضربه، ليقرر إعادته إلى «الديسكو» لمدة يومين.
لم يتوقف العذاب عند هذا الحد، فقد قامت جهات تابعة لمخابرات الاحتلال، بنقله إلى مبنى يُسمى «الحفّاضات» حيث أُجبر فادي، على ارتداء الحفاضات ليومين، ثم دفعوه إلى غرفة مغلقة، لا يوجد فيها ضوء ورائحتها عفنة، يتوسطها كرسي حديد. «جلست عليه، وربط الجنود
ذراعيّ. كنت أتحدث بشكل طبيعي قبل أن أفقد الوعي لبعض الوقت. عدت إلى الوعي لأجد قدمي قد انفجرت من شدة الكهرباء، حينها أعطاني الطبيب العسكري "حبة أكامول"، ولعدم قدرتي على الحركة أو الحديث، أعادني الجنود إلى "كونتينر" الحظيرة».

كلاب للجنس
ساعات قليلة مكثها في الحظيرة قبل أن يندفع جنود الاحتلال، وينقلونه عبر جيب عسكري برفقة شابين آخرين إلى مكان مختلف، وهناك أزال الجنود لأول مرة العصبة عن عيون الثلاثة. بقوة شديدة سحب الجنود الشاب على يمين فادي، وأجبروه على النوم على الأرض، وربطوا يديه وقدميه. وفجأة أطلق جنود الاحتلال الكلاب البوليسية المدربة على الشاب، ليمارسوا معه أبشع أنوع الجنس جملة وتفصيلاً. يقول فادي: «هذه من أصعب اللحظات التي رأيتها في كل التعذيب الذي تعرّضت له، كله كوم وهذا التعذيب كوم آخر، كنت أتمنى الموت على أن يحدث لي هذا الأمر». يضيف: «بقدرة الله وحوله، وقع حدث أمني في محيط السجن، وبسرعة انتهت مرحلة التعذيب التي مورست على شاب واحد من بين الثلاثة، فأعادونا مرة ثانية إلى الحظيرة».
آلام التعذيب اشتدّت على فادي، بدأ يصرخ ويناشد السجّان أن يقدّم له العلاج، أو يجلب له الطبيب، من دون إجابة، لكن «في نهاية اليوم التالي، نقلني الجنود إلى المستشفى الذي كان بالقرب من كونتينر الحظيرة، وعندما كنت أطلب شيئاً ما، أو أصرخ من الألم، كان الجنود يضربونني بقسوة، وكان لسانهم يردد فقط: أنت في مكان لا يحق لك أن تطلب شيئاً».

فادي شاويش السجن
«مكثت أياماً عصيبة في كونتينر الحظيرة، قبل أن أُنقل إلى بركس الطيارة، جلست نحو 4 أيام، وهناك عرض عليّ الجنود التجنيد، وهددوني بأهلي، بل قدّم لي المحقق التعازي باستشهاد أهلي، في محاولة لإجباري على التجنيد، فكان جوابي الرفض التام، وقلت لهم: أنا إذا اطلعت من هون، لن أبقى في البلد مطلقاً، فماذا تريدون من شخص سيترك البلد».
بعد أيام طويلة من التعذيب والعذاب الشديد، والانتقال من بركس إلى آخر في سجن «سيدي تيمان» أصبح فادي شاويشاً، ليكون حلقة الوصل بين المعتقلين وجنود الاحتلال، استمر الحال هذا لنحو 6 أيام. في اليوم الأخير، نادى جندي باسم فادي و7 أسرى غيره، وسألوهم عن قدرتهم على السير مشياً على الأقدام لمسافة 2 كيلومتر، فأجابوهم بـ «نعم»، وعندما دقّت الساعة الواحدة فجراً، هجم الجنود على السجن، ونادوا على الأسماء مجدداً، ونقلوهم إلى باص كان يقف أمام السجن.

طريق العودة
«أنتم الآن في طريق العودة عبر معبر كرم أبو سالم، وأنصحكم بعدم التصرف بشكل سيئ مطلقاً، وإلا ستفقدون حياتكم وحياة أحبابكم»، هذه الكلمات التي قالها جندي داخل الباص، ليدخل الفرحة والسرور على قلوب الأسرى بعد أيام من التعذيب والألم. عندما وصل الباص، باتجاه طريق «الصالة المصرية»، طلب الجنود من الأسرى الجري، وبعد نحو نصف كيلومتر تقريباً، توقف المُفرج عنهم عن الركض، لشعورهم بالتعب الشديد، نتيجة التعذيب، حتى وصلوا إلى «الصالة المصرية» ليستقبلهم «الصليب الأحمر»، الذي قدّم لفادي وللأسرى الذين معه العلاجات اللازمة. في هذه اللحظات المؤلمة كان فادي يفكر بعائلته وخاصة والدته، فهو الابن الوحيد على 5 بنات، طلب إجراء مكالمة هاتفية مع والده، فاستجابوا له فوراً.

دموع مختلطة بالفرح
اتصل فادي على رقم والده، فردّت أخته: «ألو؟»، ردّ فادي: «ألو أنا فادي»، أجابت أخته باستغراب «من؟» أعاد الإجابة: «أنا فادي». هنا اختلطت دموع فادي بين الفرح والألم، فالعائلة لم تعرف عنه أي شيء، منذ أكثر من 40 يوماً، وهو لم يدرك بأن عائلته تعرف أنه على قيد الحياة. وعندما سمعت والدته أن ابنها على قيد الحياة، وقد أُفرج عنه، وهو موجود في جنوب قطاع غزة، قررت حمل أمتعتها والانتقال مع زوجها وبناتها من الشمال إلى الجنوب.
معاناة فادي زادت كثيراً في جنوب القطاع، فقد أصيب بآلام وأوجاع ليست لها نهاية، من بينها، أنه لم يذق طعم النوم ولم يستطع التبول أو التبرّز لـ 15 يوماً، وظل على هكذا حتى أرشده طبيب مصري إلى علاج فعال. يقول: «العذاب الذي تلقيته داخل سجن سيدي تيمان، لا أتمنى لأحد أن يتعرّض له... أنقذوا الأسرى!».