يوم الخميس، الموافق 18 نيسان، بدأ الاعتصام الطالبي في الساحة المفتوحة في جامعة كولومبيا أمام مبنى المكتبة. تسلّل الطلبة عند الفجر بخيمهم ولافتاتهم إلى أحد الفناءَين الواقعين أمام مبنى المكتبة، وأعلنوا أنهم لن ينصرفوا حتى تسحب إدارة الجامعة استثماراتها من الشركات الداعمة للكيان الصهيوني.كان التحالف «لسحب كولومبيا الاستثمارات من نظام الفصل العنصري» قد ولد من رحم نشاط دؤوب من الطلاب المناصرين للقضية الفلسطينية، وعلى رأسهم جمعية «طلاب من أجل العدالة في فلسطين»، تمخّض عن الإعلان عن التحالف في سنة 2015، ثم عن بيان عام يدعو إلى مقاطعة الكيان في العام الذي يليه، وخاض حملة ضغط تضمّنت عدة استفتاءات للأساتذة والطلبة وممثليهم، كان آخرها الإثنين الماضي 22 نيسان، انتهت كلها بتأييد قرار سحب الاستثمارات من دولة الاحتلال.
تصاعد النشاط الطالبي المناوئ للصهيونية من بعد «طوفان الأقصى» ومع حرب الإبادة الدائرة على غزة. وبينما كان الرد على الجرائم الإسرائيلية تعاطفاً واسعاً مع الشعب الفلسطيني، فإن 7 أكتوبر قد فتح المجال كذلك لرفع شعارات مؤيدة للمقاومة بشكل لا مواربة فيه، بما في ذلك شعارات تعلن الفخر باليمن وحصاره للسفن الصهيونية، وصولاً في الأيام الأخيرة إلى شعارات تعلن الفخر بكتائب القسام وتدعوها إلى إحراق تل أبيب. في تلك اللحظة، أسفرت إدارة الجامعة عن سلطويتها وصهيونيتها، وأعلنت في تشرين الثاني تعليق نشاط التجمعين الطالبييْن الأنشط في التضامن مع فلسطين ومعاداة الصهيونية: «طلاب من أجل العدالة في فلسطين» و«صوت يهودي للسلام».
ومن ثم أصبح تحالف «سحب الاستثمارات» هو المظلة التي ينشط الطلبة تحتها، وقد نظّم عدة تظاهرات -غير مصرّح بها- كان من بينها التظاهرة التي اعتدى فيها طالبان من جنود الاحتياط في جيش العدو على المتظاهرين بإلقاء مادة كريهة الرائحة من ترسانة جيش الاحتلال، في كانون الأول 2023.
على الرغم من كل ذلك، اتهم اليمينيون والصهاينة والكونغرس إدارة الجامعة بأنها لم تردع الأصوات المعادية للصهيونية بما فيه الكفاية، وانصبّ هجوم هذه القوى على الطلبة الذين رفعوا شعارات مثل «الانتفاضة هي الحل» و«فلسطين ستتحرر من النهر إلى البحر»، وعلى الأستاذ في الجامعة جوزيف مسعد.
لا تقتصر أهمية هذه الأحداث في كونها تعبيراً عن تنامي الدعم لقضية فلسطين والمقاومة، بل في كون هذه الأحداث نفسها بوتقة تنظيمية ونضالية لتضافر القضايا والانخراط فيها


وظهرت رئيسة الجامعة نعمت (مينوش) شفيق أمام الكونغرس يوم الأربعاء 17 نيسان، لتتمرغ في التراب وهي تؤكد الأكاذيب الصهيونية، وتعد بفعل المزيد من أجل قمع الأصوات التي تنادي بالعدالة. في الأثناء، بلّغت إدارة الجامعة الطلبة بأنها لن تنصاع لمطالب سحب الاستثمارات من الكيان الصهيوني، وأنها ستتخذ الإجراءات العقابية ضد كل من تسوّل له نفسه التظاهر.
في فجر اليوم التالي بدأ الاعتصام. وبالفعل علّقت إدارة الجامعة عضوية عدد من الطلاب، ومن ثم اتهمتهم بالتواجد بشكل غير قانوني في أراض خاصة، ثم استدعت لهم الشرطة التي دخلت إلى الحرم الجامعي (في مشهد لم يكن حتى وقت قريب مألوفاً) فأزالت الاعتصام، واعتقلت عدداً من الطلبة.
هذه لم تكن سوى البداية. فمع اعتقال بعض الطلبة وإخلاء الباقين من الفناء المقابل لمبنى المكتبة، تجمّع الطلاب في الفناء الذي يليه، ثم بدأت تظاهرة أكبر من الأولى وتوافد الطلاب، بالأعلام واللافتات والشعارات، عبر مباني وساحات الجامعة، إلى الاعتصام الجديد.
وفي الوقت نفسه، وبينما قررت الجامعة حظر دخول عامة الناس، بمن فيهم الخرّيجون وطلبة الجامعات الأخرى، إلى حرم الجامعة، بدأت تظاهرات حاشدة في الشوارع المحيطة بالجامعة تضامناً مع فلسطين، ومع الطلبة المعتصمين، ولتعطيل سيارات الشرطة. حلّت روح ثورية متجددة في حي الجامعة والحشود الغفيرة في الشوارع بهتافاتها المنغّمة وأعلامها وشعاراتها وكوفياتها وملثميها، والناس في النوافذ يلوّحون لهم بشارات النصر والأعلام ويصفّرون ويهتفون.
ثم بدأت الاعتصامات الطالبية في الجامعات الأخرى، وأثناء كتابة هذه السطور، هناك اعتصام شبيه في جامعة ييل، واعتقالات شبيهة في جامعة براون، وتصعيد في هارفارد، وتهديد بالاعتقال في جامعة واشنطن، وتوقعات باستمرار الاعتصامات وتوسعها...
لا تقتصر أهمية هذه الأحداث في كونها تعبيراً عن تنامي الدعم لقضية فلسطين والمقاومة، بل في كون هذه الأحداث نفسها بوتقة تنظيمية ونضالية لتضافر القضايا والانخراط فيها.
إذا كانت الأحداث قد بدأت بـ«التضامن» مع فلسطين من قبل فئات عربية أو مسلمة أو يهودية-تقدّمية، فإنّ تصعيد الطلبة من ناحية، وإدارة الجامعة من ناحية أخرى، كشف اللثام عن القبضة الأمنية التي كانت قبل ذلك مستترة في المجتمعات الغربية، ودفع إلى الواجهة بمسألة استقلال الجامعات وعلاقتها بالقوى الحاكمة وبالقوى الأمنية والدور الرجعي الذي تلعبه إدارة الجامعات في بعض الأحيان (بما في ذلك جامعات ذات سمعة تقدّمية).
وهذه التجربة، في الوقت نفسه، هي تجربة تعليمية للفئات التي كانت تتعاطف من بعيد، فجأة وجد هؤلاء زملاءهم يواجهون بإصرار وشجاعة تعسّف الإدارة، وعنف قوى الأمن، ووجدوا مصير القضية الفلسطينية مرتبطاً بمصير الرأسمالية والسلطة في الولايات المتحدة –في نيويورك بالذات التي تتلقى شرطتها تدريباً على يد جيش الاحتلال، لن يكون من الصعب رؤية هذا التضافر بين القضاياـــ ثم أصبحت ساحة الاعتصام ساحة للتعلّم والنقاش ومشاركة الخبرات.
هذه المعارك كلها هي امتداد لـ«طوفان الأقصى»، ولعل «كتائب القسام» حين خطّطت له وسمّته وصاغت الإعلان عنه بمفردات تخاطب أحرار الأمّة والعالم، كانت تدرك أنه طوفان قد لا ينحسر عند حدود المعركة في فلسطين، أو أنه مثل طوفان نوح عليه السلام قد يخلق العالم خلقاً جديداً.
فإن كان 7 أكتوبر هو الذي ألهم النشطاء بالتصعيد والثبات، فإنّ القوى التي هبّت لمحاربة هؤلاء الطلبة، هي نفسها القوى التي تدرك جيداً أن مصلحتها من مصلحة الكيان الصهيوني، وأن عليها أن تدافع عن شبكة مصالحها الإمبريالية الصهيونية بكل الوسائل الممكنة. ومن هنا يصبح الاعتصام في هذه الساحة أو التلويح بالعلم في هذا الشارع أو الهتاف والغناء مع هذا التجمع، كلها معارك صغيرة ضد الشبكة الإمبريالية لا تنفصل عن المعركة الكبرى على أرض فلسطين.