امتد الكفاح الفلسطيني والصراع إلى الساحات الغربية، كارتداد مهم لـ 7 أكتوبر، حيث بدأت الجاليات الفلسطينية في الشتات، من لاجئين ومهاجرين، وجاليات أخرى من عالم الجنوب، بتنظيم صفوفها وتنظيم مسيرات حاشدة من أجل فلسطين، ولدعم وقف الإبادة في غزة ووقف الحرب الإسرائيلية. في ضوء ذلك، بدأ اللوبي الصهيوني ممارسة ضغوطاته المعهودة على النشطاء خارج حدود فلسطين المحتلة، لكن حجم الهزة التي أحدثتها عملية المقاومة على الصعيد العالمي، دفعت الغرب لاتخاذ إجراءات قمعية وأمنية غير مسبوقة بحق الفلسطينيين، بعد أن كانت الأساليب أكثر نعومة في سنوات سابقة. وعليه، يمكن أن نقول، وبلا مبالغة، إن عملية «طوفان الأقصى» لم تهدد الوجود الاستعماري في فلسطين فحسب، بل نجحت في إدخال النظام الليبرالي العالمي في أزمة، ونجحت في إسقاط ذلك القناع عن الغرب، وما كان يخفيه في باطنه من مسرحية هزلية تدّعي مبادئ الديموقراطية واحترام الحريات.
منذ صباح ذلك اليوم في تشرين الأول 2023 وحتى اليوم، بدأت ممارسة الضغوط والترهيب ضد النشطاء والفاعلين من اللاجئين والمهاجرين في الساحات الغربية، مروراً بالمساحات الأكاديمية، ووصولاً إلى العمل التنظيمي في منظمات وجاليات رافضة لاستمرار حرب الإبادة على غزة وأهلها. هنا علينا أن نضع تلك الحرب الإعلامية والأمنية والأكاديمية في الغرب، في سياق حرب غزة، إذ يمكن تحليل ما يحدث كختم عملية 7 أكتوبر على الديموقراطية والليبرالية الغربية. فقد فتحت عملية المقاومة الباب لجبهات ثورية، ضمن مسار تحرير المساحات الأكاديمية والإعلامية من السطوة الأورومركزية والصهيونية. ويمكن القول إن المواجهة أعادت تعريف «التقاطعية»، بشكل نقيض لتعريفها الليبرالي، لتشمل انتزاع جميع أشكال الحرية من النظام الليبرالي نفسه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن 7 أكتوبر عمود للمعركة الحالية، فقد تحوّل الفلسطينيون والمهاجرون إلى صد الضغط ومقاومته بكل السبل، فقابلوا تصعيد العنف الليبرالي، بنضال تحرري غير مسبوق. وعليه، أخذ السعار الغربي منحى تصاعدياً، فباتت صوره، في ألمانيا تحديداً، أكثر وضوحاً وفاشية، فلم تدّخر الحكومة الألمانية جهودها في توسيع الترهيب، حتى وصلت أجهزتها القمعية إلى أماكن سكن الفلسطينيين المقيمين على أراضيها. وعملت على حظر تنظيمات منها «شبكة صامدون» التي حظرتها مع بداية الحرب على غزة. ولم تقتصر أشكال الترهيب وحجمه على الاعتقالات التعسفية خلال التظاهرات، التي طاولت فئات مختلفة من المشاركين، أو الملاحقات العشوائية لبعض النشطاء.
لا يجب الاستهانة بالصراع الحاصل في كل الساحات كامتداد لمعركة الفلسطينيين داخل حدودهم المحتلة


بل وصلت إلى ملاحقات واضحة وواسعة تستهدف أشخاصاً معينين لديهم القدرة على التنظيم لتكميم أفواه الجميع، ومنهم منسق «شبكة صامدون» في أوروبا، الزميل والناشط محمد الخطيب. بدأت الهجمة باستهداف الخطيب، وخطاباته ومشاركاته في الندوات على امتداد الساحة الأوروبية. فعملت الصحافة في أوروبا على رسم صورة لمحمد الخطيب «الإرهابي» الذي يصطف إلى جانب «إرهاب» المقاومة الفلسطينية. وكانت المبادرة من الصحافة الألمانية في البداية، لتكمل موجة التحريض اليمينية من بعدها هولندا، حيث كان هناك استنفار ملموس من الشرطة الهولندية قبل أسابيع، على إثر تنظيم «صامدون» ندوة شارك فيها الخطيب. وأخيراً، امتد الضغط ليشمل تهديد الخطيب وأمانه في بلجيكا، حيث يقيم، فكانت نيكول دي مور، وزيرة الدولة للجوء والهجرة، قد قدّمت طلباً للمفوض العام لشؤون اللاجئين في بلجيكا الأسبوع الماضي، بهدف سحب إقامة ولجوء الخطيب على أراضيها.
حضرتُ ندوة الخطيب في هولندا قبل أسابيع، ولمست شيئاً من التأهب في محيط المكان، حيث تواجدت سيارات الشرطة الهولندية بأعداد كبيرة نسبياً في شوارع محاذية لمكان الندوة، لإيصال رسالة مفادها أن الحكومة الهولندية، كغيرها في أوروبا، تتّبع كل العمل المناصر لفلسطين.
تضمنت كلمة الخطيب في الندوة تشجيع الأوروبيين حتى على العمل ضد أنظمتهم القمعية، المتمثلة بحكومات ليبرالية «ديموقراطية». واستخلاصاً لكلمة الخطيب خلال الندوة، يمكن فهم ما تخاف منه أوروبا الليبرالية، لأن ما يعمل عليه برفقة نشطاء عرب وآخرين في المهجر هو دفع المجتمعات الأوروبية لتغيير طابع حكوماتها الاستعمارية المتحيزة علانية إلى إسرائيل.
ولعل ذلك أكثر ما يدفع الغرب لإسقاط القناع الليبرالي والعودة الدراماتيكية للسياسات الفاشية، لأن حملات التضامن العالمي التي التحمت بالقضية الفلسطينية والمعركة في غزة، تشمل تهديد أوروبا وإرثها الاستعماري وسياساتها أيضاً. وكان الخطيب قد قال في مقابلة سابقة، باختصار، إن الحكومات الأوروبية تصعّد قمعها ضد الفلسطينيين، فنراها تقدّم دعماً ضخماً لإسرائيل، خاصة مع احتدام المعارك داخل غزة، وإن تلك العلاقة تعود إلى عقود، إذ استهدفت إسرائيل بتواطؤ أوروبي سياسيين وصحافيين وكتّاباً فلسطينيين عديدين داخل حدود أوروبا. وهو ما علينا اليوم فهمه كتكامل أدوار بين الغرب والكيان الصهيوني، وهو في أوضح صوره اليوم نتيجة عملية للمقاومة، وعليه لا يجب الاستهانة بالصراع الحاصل في كل الساحات كامتداد لمعركة الفلسطينيين داخل حدودهم المحتلة.
عطفاً على علاقة الصهاينة بالغرب، يمكن القول إنّ المعركة التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي من صحافيين ونشطاء فلسطينيين، قد أثمرت في إعطاء الفلسطيني اليوم عبراً ودروساً لتتكامل مع هزة السابع من أكتوبر، فقد أصبحت المعركة ضد الليبرالي الغربي الذي كشّر عن أنيابه أوضح. وبعد أن كان التجاذب بين النشطاء والحكومات الغربية يتم بصورة ناعمة تدريجية، قام المقاتل الفلسطيني بإدخال الديموقراطية الغربية في أزمة على أرضها وبين جماهيرها. ولعل من نكد الدهر أن ألمانيا، التي تدّعي عقدة معاداة السامية، والتي تكفّر عن ذنب تاريخها النازي، باتت تلاحق اليوم حتى اليهود المناهضين للصهيونية داخل أراضيها وتطاردهم تحت مظلة تعاطفهم مع «الإرهاب» الإسلامي والفلسطيني.
وعليه، يمكن أن نتتبّع عملية قلب الطاولة على الغرب وإسرائيل في معركة السردية وكل المعارك الإعلامية، خاصة في ذروة التناقضات الغربية واصطدام طبقاتها وتضعضع اليمين واليسار في موقفهما تجاه إسرائيل.