منذ بداية العدوان الصهيوني على غزة وقادة الاحتلال الصهيوني يقدّمون للعالم خطاباًيعجّ بالتناقضات، وما فتئ بنيامين نتنياهو يكرّر أن حربهم هي حرب النور على الظلام دفاعاً عن الغرب وحضارته، مستحضراً من التوراة قصصاً ونبوءات عن القضاء على اﻷعداء وقتل النساء واﻷطفال والرضع.
التناقض كان دائماً ملازماً للصهاينة في روايتهم التي بنوا عليها دولتهم، ففكرة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» هي أولى أوجه التناقض والكذب السافرين، التي زعمت أن جماعات يهودية من أعراق وجنسيات مختلفة تمثّل شعباً واحداً لا أرض له، ليسكن أرضاً اسمها فلسطين لا شعب فيها، ليرتكبوا المجازر ويطردوا شعبها الذي قالوا أنه ليس فيها.
احتاج قادة الصهيونية إلى إقناع اليهود المستجلبين إلى فلسطين بأن لهم تاريخاً عريقاً فيها، وقصصاً ملهمة تدعو للفخر وللدفاع عن دولتهم الحديثة المستحدثة، من بينها قصة قلعة ماسادا أو أسطورة الانتحار الجماعي.
المصدر الوحيد لقصة ماسادا هو المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس، وهو كاهن يهودي ولد وعاش في أورشليم في القرن اﻷول الميلادي. يقول عن نفسه أنه انضمّ إلى المتمرّدين ضد الرومان، وصار قائداً لمنطقة الجليل، استسلم للرومان بعد حصار، ثم فرّ مع رجاله إلى مغارة، ولمّا عثر عليهم الرومان، قرّرت الجماعة الانتحار، بأن يقتل بعضهم بعضاً، وظل يوسيفوس مع رجل إلى اﻵخر، فتراجعا عن فكرة القتل المتبادل وسلّما نفسيهما. وتعاون بعدها يوسيفوس مع الرومان وساعدهم في قمع التمرّد، وسافر إلى روما حيث صار مواطناً رومانياً وخائناً في نظر اليهود.
القصة تدور حول جماعة من اليهود يصفهم يوسيفوس بالمتطرفين، اسمهم السيكاري، وتعني حملة الخناجر، رفضوا التبعيّة للرومان ودفع الضرائب لهم، فتمرّدوا عليهم وراحوا يقتلون الرومان ومن والاهم من اليهود، وكانوا يخفون الخناجر تحت أرديتهم ثم يندسون بين الزحام ويطعنون المارة في شوارع أورشليم ثم يفرّون. فقام الرومان بمطاردتهم، ففرّوا إلى قلعة ماسادا في العام 66 م، حيث قاموا بذبح الحامية الرومانية هناك ونهبوا القرى المجاورة لها بما في ذلك بعض القرى اليهودية حيث ذبحوا 700 طفل وامرأة.
يقول يوسيفوس في كتابه «حروب اليهود» أن قلعة ماسادا بنيت في زمن الحشمونيين في القرن اﻷول قبل الميلاد وبأنها أقيمت فوق صخرة مرتفعة، محاطة بأودية شديدة العمق لا تستطيع العين الوصول إلى قاعها.
في عام 73 م، حاصر الرومان قلعة ماسادا، وبعد سقوط القلعة سجّل يوسيفوس شهادة امرأتين من السيكاري، فيقول على لسانهما أن الرومان استخدموا آلة كبيرة لاختراق سور القلعة وحاولوا إشعال النيران فيه، عندها ألقى إليعازر، قائد السيكاري، خطبتين طويلتين ينقلهما يوسيوفوس على لسان المرأتين، يعرض فيهما على جماعته فكرة الانتحار الجماعي، قائلاً لهم: رغم أنه لا يزال لدينا وفرة كبيرة من الطعام، وكمية كبيرة من الأسلحة، فإنّ الله يحرمنا من كل أمل في الخلاص، بسبب خطايانا الكثيرة التي ارتكبناها تجاه أبناء وطننا. وليكن موتنا شهادة بأننا لم نخضع بسبب نقص القوت والسلاح ولكننا فضّلنا الموت على العبودية.
يزعم يوسيفوس بأن عدد السيكاري الذين كانوا في قلعة ماسادا 967، حيث قام الرجال بقتل زوجاتهم وأطفالهم، ثم اختاروا بالقرعة عشرة رجال ليقتلوا باقي الرجال، ثم قام كل واحد من هؤلاء العشرة بإغماد سيفه في جسمه. مات 960 منهم ولم ينج إلا امرأتان وخمسة أطفل كانوا مختبئين في إحدى الفجوات تحت الأرض. وفي صباح اليوم التالي دخل الرومان للاستيلاء على القلعة والقبض على من بها من السيكاري، ففوجئوا بأنه لم يكن هناك من يعترض طريقهم، ولم يدروا ما الذي حدث حتى خرجت المرأتان ومعهما الأطفال وأخبرتا الرومان بقصة الانتحار، ولم يستطع الرومان تصديق الرواية إلا بعدما عثروا على الجثث المذبوحة.
في أواسط القرن التسع عشر، زعم بعض الباحثون الغربيون أن قلعة مكتشفة في خربة سبه جنوب الخليل هي قلعة ماسادا، وتتالت أعمال التنقيب، للكشف عن قلعة رومانية لا أثر فيها ﻷي بناء من عهد الحشمونيين (القرن اﻷول ق.م)، تشبه في بعض تفاصيلها الوصف الذي وضعه يوسيفوس لقلعة ماسادا، وتختلف في تفاصيل أخرى، منها مثلاً أن القلعة ليست محاطة بأودية شديدة العمق لا تصل العين إلى قاعها، ولم يعثر داخلها سوى على بقايا ثلاثة موتى، رجل وطفل وظفيرة شعر لمرأة، ولم يُعثر أبداً بداخلها أو حولها على بقايا لما يقارب الألف شخص.
تُرجمت قصة ماسادا إلى العبرية في 1923 لتكون قصة ملهمة لخلق روح شعبية جامعة عن البطولة والحرب في أذهان المستوطنين اليشوف الذين كانوا في فلسطين. وراحوا ينظمون الجولات للتسلق إلى القلعة، ثم صارت مزاراً وهدفاً لرحلات جماعية تدوم عدة أيام لاستكشاف صحراء يهودا (كما يعتقدون) وللتحلي بروح الشجاعة والقداسة.
وفي الثلاثينيات، عندما تصاعد اضطهاد النازيين لليهود في أوروبا، واندلاع الثورة العربية في فلسطين ضد الانتداب البريطاني والهجرة اليهودية، أصبحت رمزية ماسادا تتعمّق، لدرجة أنه عندما اقتربت القوات الألمانية في الحرب العالمية الثانية من مصر، وعلى الرغم من أن قرار التقسيم لم يكن قد صدر بعد، إلا أن القادة الصهاينة شعروا بالقلق من غزو ألماني على دولتهم الموعودة، فوضعوا خطّة سرّية مستوحاة من أسطورة ماسادا لتحصين جبل الكرمل عبر جمع أكبر عدد من اليهود والقتال هناك حتى آخر شخص.
وبعد نكبة 1948، عملت دولة الاحتلال على إشاعة تصوّرات عن الذات اليهودية بأنها انتحارية استشهادية، وعلى تعميق ذلك في وجدان اليهود، حيث ينهي جيش الاحتلال تدريب جنوده وبداية خدمتهم كمقاتلين بالسير عشرات اﻷميال إلى القلعة لاستلام قبعاتهم هناك، وترديد يمين الولاء حيث يقسمون أن مسادا لن تسقط ثانية كما سقطت في الماضي بأيدي الرومان.
يرى كثير من الذين حلّلوا قصة ماسادا، أن يوسيفوس أراد التملّق للرومان وإضفاء صورة إنسانية على جيشهم بالقول أنهم لم يقتلوا المتمرّدين اﻹرهابيين من السيكاري، فاختلق قصّة الانتحار الجماعي، وأن ما نقله يوسيفوس فعلياً لم يكن انتحاراً، بل مجزرة بحق النساء واﻷطفال وأغلب الرجال، ولم ينتحر منهم إلا من بقي للآخر، وهذا يجعل من رواية يوسيفوس عن اليهود قصّة مخزية تدعو للعار وليس للفخر.
كثير من الباحثين اﻵثاريين خلصوا إلى أن ماسادا محض خرافة وأن المكتشفات داخل القلعة تتعارض مع قصة يوسيفوس بشكل كبير، لكن هذا لم يغيّر شيئاً، فالمجتمع الصهيوني تعايش مع الكذب وصار يكذب ويصدّق الكذب تماماً مثلما يتنفّس. وقد رأينا بعد السابع من أكتوبر عدداً لا حصر له من اﻷكاذيب، التي يعرف من يقولها أنها كذب، ويعرف من يسمعها منهم أنها كذب، ولا يكلّ جميعهم من ترديدها، حتى بعد أن تُثبت التحقيقات واﻷنباء أنها كذب، يعود ذات اﻷشخاص دون خجل أو اكتراث لترديدها من جديد.

في السابع من أكتوبر قام مجاهدو كتائب عز الدين القسام في قطاع غزة المحاصر، بتوجيه ضربة عسكرية موجعة لجيش الاحتلال، فقام هذا الجيش، باطباق الحصار على قطاع غزة، فقطع عنه الماء والغذاء والدواء والكهرباء والوقود والاتصالات، وشنّ حربا همجية راح يدمر فيها كل شيء، وأفرغ جام غضبه وانتقامه على المدنيين العزل، على بيوتهم وعلى مساجدهم وكنائسهم ومراكز اﻹيواء، يقصفهم إن بقوا في أماكنهم، ويقصفهم إن نزحوا، يقصفهم إن عادوا، ويقصف وينبش قبورهم إن ماتوا.

في غزة يسطر مقاتلو فصائل المقاومة الفلسطينية آيات في الشجاعة والبطولة لا سابق لها في التاريخ، حيث يشتبكون مع قوات النخبة المدججة في جيش الاحتلال ويلحقون بها خسائر موثقة بالصوت والصورة، شعارهم في ذلك "إنه لجهاد، نصر أو استشهاد"، وفي غزة صمود أسطوري لشعب قرر أن يرفض التهجير رغم القصف الوحشي، وطواقم طبية رفضت إخلاء المستشفيات وأصرت على القيام بواجبها، وطواقم صحفية تعلم علم اليقين أنهم وعائلاتهم مستهدفون لكنهم لم يتوقفوا عن نقل صوت غزة للعالم، وفي غزة أمثلة لا تعد ولا تحصى عن البطولة والثبات.

قصة ماسادا خرافة أرادها الصهاينة واقعا، ورغم أن من كتبها يهودي خائن لشعبه إلا أنهم وظفوها لبعث الشعور بالفخر القومي، يستلهمون منها الشجاعة وهي قصة عن جبناء خافوا من مواجهة أعدائهم، عن رجال قتلوا بأيديهم نساءهم وأطفالهم فصارت رمزا عن حرب من أجل البقاء، وما انفك قادة الاحتلال يكررون بعد طوفان اﻷقصى أن حربهم ضد غزة هي حرب من أجل البقاء، وشتان بين ماسادا وغزة.

في ماسادا كان اليهود هم المُحاصَرين، وفي غزة هم الُمحاصِرون، كانوا المدافعين واليوم هم المهاجمون، في مسادا كان لديهم من القوت ما يكفيهم لسنوات لكنهم اختاروا الانتحار على مواجهة اﻷعداء، وفي غزة لا ماء ولا غذاء ولا دواء، ورغم ذلك اختار أهل غزة الصمود والنضال.

في ماسادا كان التفوق في القوة والتكنولوجيا لصالح أعداء اليهود، أما اليوم فالتفوق صار لهم. الثابت الوحيد بين اﻷمس واليوم وبين الخرافة والواقع، أن اليهود في مسادا كانوا مجرمين جبناء، وفي غزة أيضا هم مجرمون جبناء، والهزيمة مآل الجبناء.

كيان الاحتلال بُني على اﻷكاذيب والتناقضات، ومهما حاول الغرب التغطية عليه ودعمه من أجل مصالحه، فإن هذا الكيان سيصل إلى نقطة تسقط فيها كل اﻷكاذيب، وستتصادم فيها التناقضات، وكما حطم طوفان اﻷقصى أسطورة الجيش الذي لايقهر، فقد حطم الصورة المزيفة التي صنعها الكيان والغرب الداعم له على مدى عقود أمام العالم، ومعها ستسقط ماسادا ثانية وإلى اﻷبد.

* مهندس وباحث